أطلق الصراعان التوأمان في العراق وسوريا العنان لديناميكية جديدة غير مستقرة حولت الشرق الأوسط والعالم من ورائه إلى منطقة شديدة الاضطراب. والواضح أنه لن تكون هناك نهاية في الأفق المنظور لأي من هذين الصراعين، وأن نتائج القتال المستمر لدرجة أنه لا يوجد إلى الآن حل من شأنه تطبيع الأوضاع في الدولتين أو المنطقة بأسرها. ورغم صعوبة استيعاب الأمر، فإنه من الضروري شرح «الواقع الجديد» الناشئ هناك، والذي يتعين على صناع السياسات أخذه في الحسبان، ومن ثم وضع الحلول تبعاً لذلك. فحتى قبل ظهور تنظيم «داعش» الإرهابي، عانى العراق من تحولات ضخمة في التركيبة السكانية، وقعت أثناء الحرب الأهلية التي أعقبت غزو الولايات المتحدة واحتلالها للعراق، إذ تولت حكومة طائفية يقودها الشيعة السلطة بمباركة أميركية، مانحةً إيران نفوذاً في الشؤون العراقية. وقد تعرضت مناطق سنية وشيعية للتطهير العرقي على نحو واسع النطاق، وأُخرجت مجتمعات من مواطنها التاريخية، وحصلت المنطقة الخاضعة للسيطرة الكردية على ما يشبه استقلال كامل غير رسمي في إدارة شؤونها الداخلية والخارجية. وفي هذا الأثناء، أصبح السكان من العرب السنة مهمشين بدرجة كبيرة وعرضة للتضييق من طرف الحكومة التي يقودها الشيعة، مما أثار مشاعر السخط لديهم. وفي أوج الصراع، أضحى خمس سكان العراق بين لاجئ في الخارج ونازح في الداخل. ومنذ ذلك الحين، عاد بعض العراقيين إلى بلدهم، لكن ليس إلى منازلهم، غير أن المعارك الأخيرة تسببت في موجة جديدة من اللاجئين والنازحين. ومؤخراً تم تسجيل نحو نصف مليون عراقي باعتبارهم لاجئين، بينما بلغ عدد النازحين زهاء أربعة ملايين نسمة. ولعل الجفاف الشديد لفترة طويلة كان أول الأسباب التي أدت إلى نزوح شرائح كبيرة من السكان السوريين، وكان ذلك النزوح وسوء تعامل الحكومة السورية معه من الأسباب التي أفضت إلى الحرب الدائرة هناك منذ نحو خمسة أعوام. وكما هو الحال في العراق، أصبحت الحرب السورية صراعاً طائفياً. وبحسب أحدث الإحصائيات، أصبح زهاء نصف الشعب السوري بين لاجئ ونازح، بينما غادر البلاد أكثر من أربعة ملايين شخص ونزح قرابة ثمانية ملايين في الداخل السوري. وفر أكثر من مليونين إلى تركيا، ويتواجد أكثر من مليون شخص في لبنان، وما يربو على ثلاثة أرباع المليون في الأردن. وبينما يقطن معظم هؤلاء السوريين في مخيمات داخل تركيا والأردن، استقر عشرات الآلاف منهم في مدن تركية كبيرة، حيث بدؤوا ممارسة أعمال تجارية، ومحاولة تأسيس حياة جديدة لأسرهم. وإلى ذلك، أدى القتال السوري إلى زعزعة الاستقرار في المناطق الكردية داخل كل من سوريا وتركيا. وأثارت الانتصارات الكردية ضد تنظيم «داعش» في سوريا الحكومة التركية التي لطالما عارضت أية تحركات صوب الاستقلال الكردي. وأدى ذلك إلى قمع متزايد للأكراد في تركيا. ونجم عن ذلك الصراع لاجئون ونازحون جدداً. أما الوضع في لبنان فيبدو مختلفاً تماماً، فلأن الدولة لم تصرح بإنشاء مخيمات رسمية، فقد انتشر السوريون الذين تدفقوا عبر الحدود اللبنانية في أنحاء البلاد، واستأجروا الشقق أو أنشؤوا هياكل غير رسمية، ووجدوا عملاً وألحقوا أبناءهم بالمدارس. ومن ثم أضحت الضغوط على لبنان هائلة، وهو ما أجهد قدرة الدولة اللبنانية وبنيتها التحتية إلى أقصى حد، فباتت المدارس والخدمات الصحية والأجهزة الاجتماعية التي تستوعب أكثر من طاقتها بكثير عاجزة عن توفير الخدمات، وعلى رأسها المياه والكهرباء. وعلاوة على ذلك، أصبح السكان اللبنانيون، الذين رحبوا في بادئ الأمر بجيرانهم الفارين من الحرب الأهلية، مستائين بعد أن ارتفعت أسعار السلع الأساسية، وحدث عجز في المساكن، وزيادة في معدلات الفقر والبطالة بين اللبنانيين. أما بالنسبة للسوريين والعراقيين الذين شقوا طريقهم فراراً من الصراعات بحثاً عن ملاذ في أوروبا، فالوضع لا يحتمل، لاسيما أنهم لحقوا بالأفغان والفلسطينيين والليبيين وآفارقة آخرين جازفوا بكل شيء من أجل الوصول إلى أوروبا من أجل بدء حياة جديدة. وهذا التدفق البشري تحول إلى موجة هائلة دفعت حسب أفضل التقديرات بنحو مليون لاجئ إلى أوروبا، ويتزايد العدد كل شهر. وإضافة إلى هجرة اللاجئين شمالاً، يتدفق أيضاً آلاف من الأوروبيين المتطرفين سعياً إلى الانضمام للجماعات المتطرفة في سوريا والعراق. وفي معظم الأحيان، عندما تحدث أزمات لجوء، يُنظر إليها باعتبارها مشكلات قصيرة الأجل تتطلب حلولاً مؤقتة، لكن كافة الدلالات تشير إلى حقيقة أن الأمر ليس كذلك في سوريا والعراق. ولن تنتهي هذه الأزمات قريباً، حيث نشأ واقع جديد لن يكون من السهل العدول عنه، وإنما سيترسخ مع استمرار الصراعات. *رئيس المعهد العربي الأميركي