قد يبدو غريباً أن نتساءل عن إدراك أو موقف الجماعات والتنظيمات السياسية التي توظف الإسلام في تحصيل السلطة والثروة في العالمين العربي والإسلامي من البرنامج النووي الإيراني، لكن من يمد بصره خارج اللحظة الراهنة ليرى بعض أعماق العلاقات بين مختلف هذه الجماعات وإيران، الثورة والدولة معاً، فهي تؤسس هذا الإدراك، وقد تعطيه حجية لدى الطرفين معاً، طيلة الوقت منذ انطلاق هذا البرنامج وحتى الاتفاق الأخير عليه بين طهران والغرب. ابتداءً فإن إيران سعت منذ أن تمكن الملالي من تحويل ثورة التيار المدني، بشقيه اليساري والليبرالي، لصالحهم، إلى أن تمد بصرها إلى الجماعات الدينية المسيسة في العالم العربي على وجه الخصوص، راغبة في توظيفها كي تحقق هدف «تصدير الثورة»، مغمضة العينين تكتيكياً لكون هذه الجماعات «سُنية المذهب»، وعارفة في الوقت ذاته أن بعض قادتها راحوا يتعاملون مع مسار الخميني باعتباره «نموذجاً إسلامياً»، أو يستلهمون منه أملاً في إمكانية الوصول إلى السلطة، بعد مواجهة النظم الحاكمة والتيار «العلماني» المعارض بالتتابع، أو على التوازي. فلحظة سقوط الشاه عن الحكم وعودة الخميني إلى إيران كانت هذه الجماعات تعيش لحظة زهو بعد أن كثر أتباعها، وساعدتها أنظمة حكم على ترسيخ أقدامها في تربة المجتمعات العربية، وباتت دولاً في الغرب نفسه تتعامل معها على أنها تشكل رقماً ذا بال في المعادلة السياسية المحلية والإقليمية. البحث عن «دوائر تعاطف» ولم يعد مستغرباً وقتها أن يتحدث الإيرانيون عن «ثورات إسلامية قادمة» في بعض البلدان العربية، ويعولون على أن هذا التطور سيؤدي في نهاية المطاف إلى خلق دوائر تعاطف وتعاون بين هذه الجماعات وبين «الثورة الإيرانية» بعد أن صارت في السلطة، وتحكمت في الدولة تحكماً شديداً، وراحت إيران تبني جسوراً مع هذه الجماعات أسستها على ثلاث مسائل رئيسة، هي: 1- القضية الفلسطينية: وهنا رفعت طهران شعار «تحرير القدس» و«دحر الصهاينة» أو «قتال اليهود»، وهي الشعارات ذاتها التي تتبناها الجماعات السياسية ذات الإسناد الإسلامي من المحيط إلى الخليج، دون أن نرى ترجمة عملية لشعاراتها تلك في الغالب الأعم. 2- مواجهة الغرب: ونعتت إيران أكبر دولة في الغرب وهي الولايات المتحدة الأميركية بأنها «الشيطان الأكبر» وهو ما يتماشى مع نعت الجماعات الدينية المسيسة للغرب بأنه «صليبي حاقد». وحدث هنا تشابه، بل تطابق أحياناً، في مفردات الخطاب التي استعملها الجانبان، وصار نقطة جاذبة تتفادى أو تتجاهل الخلافات السياسية والمذهبية. 3- صناعة المشروع الإسلامي: حيث طرحت إيران نفسها كنموذج على الجماعات الإسلامية أن تحتذي به ساعية إلى إقامة «الجمهورية الإسلامية»، وبدأت بعض الأقلام التابعة لهذه الجماعات تكتب في هذا الاتجاه، وبعضهم احتج بالتجربة الإيرانية كبرهان على إمكانية إقامة «الدولة الإسلامية» المنتظرة. التقارب بين «الإخوان» وإيران لهذا وجدنا تقارباً بين جماعة «الإخوان» وإيران، لم يتوقف، حتى قامت الانتفاضات والثورات العربية، ووصف علي خامنئي الثورة المصرية بأنها «ثورة إسلامية» وعرضت طهران مساعدات مباشرة على جماعة الإخوان كي تصل إلى الحكم، فلما وصل محمد مرسي إلى الرئاسة فعلاً بعد أن حازت جماعته أغلبية البرلمان، تصاعدت العلاقات بين الطرفين إلى أعلى صورة لها، ووصل الأمر إلى إبداء السلفيين، وقت أن كانوا حلفاء للإخوان، امتعاضهم الشديد من هذا التقارب، لاسيما بعد أن زار الرئيس الإيراني السابق أحمدي نجاد مصر، وأشار بعلامة النصر وهو بجوار شيخ الأزهر، فكان الرد هو قذفه بحذاء وهو في باحة مسجد الحسين. وقد عرض الإيرانيون على «الإخوان» المساعدة في تشكيل تنظيم أشبه بالباسيج، مكون من موالين لهم، ليوازي الجيش والجهاز الأمني، ويستعمل في إعانتهم على إحكام قبضتهم على زمام الأمور، ومواجهة معارضيهم بالعنف إن لزم الأمر. مأوى لـ«الجهاديين» وقبل ذلك بسنوات طويلة فتحت إيران أراضيها لبقايا «الجهاديين» العرب في أفغانستان بعد أن وقعت حرب بين «المجاهدين» عقب خروج الجيش السوفييتي واستلامهم الحكم، وأعادت فتحها مرة أخرى أثناء ضرب الولايات المتحدة لـ«طالبان» إثر حادث الحادي عشر من سبتمبر 2001، واستضافت عدداً من قيادات وأفراد هذه الجماعات، قاصدة توظيفهم فيما بعد لخدمة مشروعها السياسي الطموح. ولم يكن هذا مستغرباً من دولة سبق أن احتفلت بقيام أحد أفراد الجماعة الإسلامية في مصر وهو خالد الإسلامبولي باغتيال الرئيس أنور السادات، بل أطلقت اسمه على شارع في طهران، ولا تكف مصر عن المطالبة بإلغائه، بل تعد هذا أحد الشروط لرفع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، لتعود إلى سابق عهدها. وقطعاً أثرت الأحداث في سوريا على رهانات الطرفين، فأنصار «الإسلام السياسي» بشتى فصائله ذهبوا في اتجاه المشروع التركي، وجاء صعود النبرة المذهبية ليلقي بظلال كثيفة على علاقة الطرفين، لاسيما في ظل الحديث عن ضرورة اصطفاف سني في مواجهة المشروع الإيراني، اتكاءً على ما جرى في العراق، ومن بعدها سوريا، وكذلك اليمن، ومملكة البحرين، وهي نبرة زادت أكثر في إطار عاصفة الحزم ضد الحوثيين في اليمن. وهم «القنبلة الإسلامية» لكن هذا الجفاء لا يعني أن تلك الجماعات لا يروق لها بالضرورة أن تكون لدى إيران قدرات نووية، شرط أن تستعملها في مواجهة الغرب وإسرائيل، أو حتى إعطاء إيران قوة تساعدها في إسقاط الأنظمة العربية الحاكمة وفتح الطريق أمام الجماعات الإسلامية إلى الحكم. فقد سبق لتلك الجماعات أن احتفلت كثيراً بامتلاك باكستان قنابل نووية، وأطلقت عليها «القنبلة الإسلامية»، وقد تزداد زهواً ببلوغ إيران هذا الهدف، خاصة تلك الجماعات التي تحتفظ بعلاقات جيدة مع إيران رغم التطورات الإقليمية الفارقة وصعود النبرة المذهبية، مثل الجهاد الإسلامي في فلسطين. إن هناك دراسات عديدة تتساءل عن إمكانية أن تمتلك الجماعات الإرهابية أو الدينية المتطرفة ذات يوم أسلحة نووية؟ وقد طارت أخبار عديدة أيام مجد تنظيم «القاعدة» تتحدث عن سعي أسامة بن لادن لشراء قنابل نووية جاهزة من بعض دول الاتحاد السوفييتي السابق، وروجت وسائل الإعلام الغربية لهذه الرواية كثيراً، وفتحت باباً واسعاً أمام مخاوف العالم كله من أن يكون هذا الأمر حقيقياً. وبدأ المحللون العسكريون يتكهنون عما يمكن أن يحدث لو صار هذا واقعاً. مرونة وانتهازية ولا يعني هذا بالطبع أن تلك الجماعات يمكن أن تطمع في الحصول على قنابل نووية من طهران، حال بلوغ البرنامج النووي هذه المرحلة، وقيام إيران ذات يوم بإعلان أنها باتت دولة نووية، ووضعت العالم كله أمام سلطة الأمر الواقع، مثلما سبق أن فعلت باكستان. لكن بوسع امتلاك إيران سلاح نووي أن يدعم جانباً من خطاب هذه الجماعات حول «لغة القوة» التي لا يفهم الغرب غيرها، وحول الظهير «المسلم» الذي يمكن الاتكاء عليه في مواجهة هذا الغرب، لاسيما أن تكتيكات إيران تتمتع بقدر هائل من المرونة، تسمح لها بأن تتعامل مع جماعات إرهابية تقول إنها «سنية المذهب» إن كان في ذلك خدمة للمصالح الاستراتيجية الإيرانية. لكن، وعلى الوجه الآخر، بوسع جماعات شيعية متطرفة أن تتحدث صراحة عن إمكانية إمدادها بقنابل نووية صغيرة، حال امتلاك إيران لها، أو تقتصر في مثل هذا الحديث على تحقيق «الردع» لخصومها. ومثل هذا الوضع يفترض اندلاع صراع مذهبي حاد واستمراره زمناً طويلاً، وامتلاك إيران أصلاً لقدرات نووية. لقد تابعت الجماعات الدينية المتطرفة إدارة إيران لملفها النووي بإعجاب، لأن طهران بدت خلاله متحدية الغرب، ومصرة على المضي قدماً في طريقها، غير عابئة بالعقوبات ولا بالعواقب. ومثل هذه الطريقة في التصرف طالما تروق لهذه الجماعات، التي تمتلك هي الأخرى حداً بالغاً من العناد حيال الغرب، ويتشبع خطابها بمفردات تدل على التحدي، وتستهين بالفجوات القائمة بين الدول الغربية، لاسيما الولايات المتحدة الأميركية، وبين العالم الإسلامي في التسليح والاقتصاد والتكنولوجيا. لهذا لم تبد هذه الجماعات قلقاً حيال سعي إيران لامتلاك سلاح نووي مثلما فعلت الأنظمة الحاكمة في أغلب الدول العربية، خاصة دول الخليج العربي، فتلك الجماعات في الأساس تنازع هذه الأنظمة في الشرعية، وتنعتها دوماً بمهادنة الغرب أو الرضوخ له، وتتهمها بأنها لا تسعى إلى حيازة أسلحة فتاكة «ترهب العدو»، ومن هنا لم يصل صراخ حكومات عربية من أخطار البرنامج النووي الإيراني إلى آذان هذه الجماعات وبدت متفهمة لهذا، ولم يخرج عن هذه القاعدة سوى السلفيين، لأنهم يزنون الأمور بميزان النزال المذهبي، الذي يمثل الأساس الذي يستندون إليه وهم يقدرون مواقفهم حيال الإقليم والعالم. ورقة للمساومة من زاوية أخرى استعلمت إيران مثل هذه الجماعات كجزء مهم من أوراق تفاوضها على برنامجها النووي، أو مساومتها الغرب لكسب الوقت، فطهران تتعامل مع الجماعات الإسلامية ذات الصلة بها على أنها حوائط صد عن هذا البرنامج، وربما تعلم بعض قيادات هذه الجماعات تلك اللعبة، وتتساوق أو تتواطأ معها، وربما لا تعرف، وتعتقد أن إيران تمد لها يد العون من منطلق التزامها الديني. وإذا كانت مساندة إيران لحزب الله، لا يخلو جانب منها من المسألة المذهبية، فإن الجزء الأهم هو استعمال قدرات «حزب الله» لردع إسرائيل، التي كانت وظلت ولا تزال تبدي مخاوفها من البرنامج النووي الإيراني، وتهدد بين حين وآخر بضربه، وتحرض دولاً غربية على هذا، وحتى المسألة المذهبية لا تخلو من تسييس في التوجهات الإيرانية، اتكاء على ميراث طويل من أدلجة الدين أو ما يسمى بـ«التشيع السياسي». ويزداد الأمر وضوحاً مع مساندة إيران لـ«حماس» وتنظيم «الجهاد الإسلامي»، الذي بدأت علاقتها به تتعزز بمرور الوقت، حينما راحت «حماس» تميل تدريجياً إلى المحور القطري التركي، فمثل هذه المساندة لا تتكئ على مسألة مذهبية بالطبع، لكنها تضغط على إسرائيل من جانب أساسي، وتقول لها: إن أصبتِ البرنامج النووي الإيراني بسوء فإن العقاب جاهز، إما مباشرة من خلال قصف صاروخي لإسرائيل من الأراضي الإيرانية أو العراقية، وإما بصواريخ وعمليات نوعية تنطلق من غزة وجنوب لبنان. استغلال القضية الفلسطينية ولعل تراجع دعم بعض الدول العربية للمقاومة ضد إسرائيل، شجع إيران على التقدم وملء هذا الفراغ، وتحويل الموقف تدريجياً من خدمة القضية الفلسطينية إلى التخديم على برنامج إيران النووي، بل تذهب إيران إلى ما هو أبعد من هذا، حين تصنع تناغماً بين القضيتين، فتقول إن امتلاكها سلاحاً نووياً يخدم من دون شك حركة المقاومة ضد إسرائيل، ويرفع من احتمال انتصار القضية الفلسطينية. ومن هنا وجد قادة الجماعات الدينية التي تعمل بالسياسة خطاباً بوسعهم أن يسوقوه لأنصارهم، فلا يجدون تناقضاً بين مواقفهم كجماعات سنية من برنامج نووي لدولة تستعمل التشيع في خدمة أهدافها، مستغلة الخطأ التاريخي الذي وقع فيه العرب بحطهم من قدر ومكانة مدرسة النجف لحساب مدرسة قم، وممارسة تمييز في بعض الدول ضد الشيعة، ونعت بعض وسائل الإعلام لهم بالخيانة، وهي مسألة يجب أن تختفي مع تعزيز التوجه المدني للدول، بما يقطع الطريق على إيران في استغلال هذه المسألة.