يمكن تعقب جذور الانحدار الحالي لبعض السياسيين في الولايات المتحدة نحو الجنون إلى سلسلة من الصدمات الكارثية التي لم تعالج بعد أن تعرض لها الأميركيون أثناء إدارة بوش. وفي دورة قصيرة مدتها 8 أعوام، عانينا من خسارة جماعية للثقة في القيادة الأميركية، وفي قدرة الحكومة على أداء معظم مهامها الأساسية، وفي جوهر الحلم الأميركي. ودعونا نتذكر أنه عندما تم انتخاب جورج بوش في عام 2000، كانت العملية الانتخابية نفسها مبددة للثقة، وعلى رغم ذلك مضينا قدماً لأن البلاد كانت تبلي بلاء حسناً على الصعيدين الاقتصادي والسياسي. وبعد أن خرجنا منتصرين من الحرب الباردة، أظهرنا قدرتنا على القيادة دون منازع في العقد التالي، من خلال انتصارنا في حربين سريعتين نسبياً هما: تحرير الكويت، وإحلال السلام في البوسنة. ثم جاءت هجمات الحادي عشر من سبتمبر المدوية، ولم تؤد القرارات المصيرية التي اتخذتها إدارة بوش رداً على الهجمات إلا إلى إطالة وتعميق صدمة الهجمات الإرهابية. فقادت تلك الهجمات الولايات المتحدة إلى حربين، وقد أخبرونا بأن الانتصار سيكون «سريعاً ونظيفاً»، وبالتأكيد سيتم الترحيب بنا كفاتحين، وستنتشر جذوة الديمقراطية في أنحاء الشرق الأوسط بأسره. ولكن بعد خمسة أعوام، ومع فقدان آلاف الأرواح من الأميركيين، وإنفاق تريليون دولار، وتنامي العداء للأميركيين في أنحاء العالم، لم تقترب الحربان من النهاية، وفقد الأميركيون الثقة في قيادتنا للعالم. ولم يكن أداء إدارة بوش أفضل حالاً أيضاً على الجبهة الداخلية. وعلى رغم أنه يُنسب له الفضل في تأكيده أن «الإسلام دين سلام»، وتحذير الأميركيين من استهداف مواطنيهم من ذوي الأصول العربية أو المسلمين، إلا أن وزارة العدل في إدارته اختزلت تلك الرسالة بتقنين ممارسات أدت إلى التمييز ضد المجتمعين. وقد أحدثت الندوات الحاشدة والمؤتمرات الصحفية المؤججة والانتهاكات المتكررة لـ«التحذيرات الكثيرة» الخوف وبثت الشكوك الجماهيرية بشأن «أعداء الداخل». وفي تلك المرحلة، ضرب إعصار كاترينا الولايات المتحدة، ومن ثم كانت الحاجة إلى التعامل مع ضربة أخرى والبلاد تترنح بالفعل. وكان من المتوقع أن تبلي «حكومة المحافظين الصغيرة» بلاء حسناً في وقت المأساة. ولكن رد الإدارة جاء متأخراً ولم تؤد الإجراءات غير المتقنة التي اتخذت إلا إلى تعميق ضياع ثقة الجماهير في قدرة الحكومة على التصرف. وجاءت ضربة أخرى في الأيام الأخيرة من عمر إدارة بوش في صورة ركود اقتصادي عميق ومتزايد هز ركائز النظام المالي في الولايات المتحدة، وثقة الناس في الحلم الأميركي. وفي غضون أشهر قليلة، باتت بنوك وشركات تصنيع كبرى على شفا الإفلاس، وخسر الأميركيون العاديون ما يتراوح بين 20 و30 في المئة من ثروتهم التي جمعوها لخطط تقاعدهم، وتضاعفت معدلات البطالة، وتم تهديد واحد من كل خمسة ملاك منازل بالمصادرة. وأظهرت استطلاعات الرأي أن ثقة ثلثي الأميركيين في المستقبل الاقتصادي صارت فجأة على النقيض من حالها في عقد التسعينيات وباتوا يرون أن البلاد كانت تسير في الطريق الخاطئ، ولم يعد هذان الثلثان يعتقدون أن أبناءهم سيحظون بمستقبل أفضل. ومهّد ذلك كله لفوز أوباما في عام 2008، الذي كان أبرز ملامحه كونه اعتمد على خطاب انتصار الأمل على الخوف، بدعوة إلى المضي قدماً نحو أيام أفضل. وفي معظم فترات الصدمات الجماعية التي درستها، كان رد الفعل النموذجي هو الخوف والتفكك الاجتماعي، والتشبث بقيم الماضي الرومانسي. ولكن في هذه المرة جاء رد الفعل مختلفاً، ولكنه استمر لفترة قصيرة. فبمجرد فوز أوباما، بدأ الحزب الجمهوري عندئذ حياكة مؤامرات لإفشاله. وفعل الجمهوريون كل ما في وسعهم لعرقلة أجندته في الكونجرس، ومولوا وقدموا الدعم اللوجستي لحزب الشاي، وأيدوا حركة تنشر نظريات المؤامرة بشأن مكان ميلاد أوباما، وبأساليب ماكرة استفادوا من أعمق المخاوف بشأن البعد الأفريقي للرئيس ودين والده. وفي غضون عام من انتخاب أوباما، أكد عدد كبير ممن يصفون أنفسهم بالجمهوريين أنهم يعتقدون أن الرئيس لم يولد في أميركا، وبالتالي أنه ليس رئيساً شرعياً! وقد أظهر استطلاع حديث للرأي أن أكثر من نصف الجمهوريين يعتقدون أن أوباما مسلم، ويعتقد أكثر من 60 في المئة من مؤيدي المترشحين ترامب وكارسون وجهة النظر هذه، ويصدقون أن الرئيس لم يولد في الولايات المتحدة. وبالطبع، فإن دعوات ترامب والجمهوريين لـ«جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» و«منعنا من الضياع» و«استعادة كرامتنا» تأتي ترداداً لأصداء تلك الصدمات الجماعية التي لم تعالج، والتي عانتها المجموعة ذاتها من الناخبين الذين يشكلون حزب الشاي.