من بعد ربع قرن من الإقامة الجبرية والقهر والإذلال وشتى صور المعاناة، حققت المعارضة البورمية «أونج سان سو تشي» زعيمة حزب «الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية» المعروفة لدى مواطنيها بـ«صوت الأمل» حلمها في الانتصار على عسكر بلادها ممن أذاقوا الشعب البورمي الويلات وتسببوا في فقره وتخلفه منذ إنقلابهم المشؤوم بقيادة الجنرال «ني وين» في عام 1962 ضد الحكم الديمقراطي التعددي بزعامة رئيس الوزراء الأسبق أونو، دعك من إرسائهم لنظام القبضة الحديدية منذ إلغائهم لنتائج انتخابات 1990. نعم! كانت «سو تشي» متأكدة أنّ من تمثل صوتهم لن يخذلونها، إذا سارت العملية الانتخابية بطريقة سليمة ودون تزوير أو تدخل من ذوي الرتب النحاسية كما جرت العادة. لكنها حتما لم تتوقع أنّ حزبها سيفوز بالأغلبية الساحقة في مجلسي النواب والشيوخ (238 مقعداً في مجلس النواب المكون من 440 مقعداً، 110 مقاعد منها مخصصة للعسكر، و126 مقعداً في مجلس الشيوخ المكون من 224 مقعداً حيث 56 مقعداً مخصص للعسكر). وكان من الممكن أن تزيد هذه السيدة السبعينية الجسورة من مقاعد حزبها في مجلسي البرلمان لولا أنّ عدداً كبيراً من الناخبين، ولاسيما ضمن مجتمعات الأقلية (مثل الروهينغا المسلمين) لم يتمكنوا من الإدلاء بأصواتهم باعتراف ممثل الأمين العام للأمم المتحدة «ستيفان دو جاريك». وعلى الرغم من هذا النصر الكاسح، فإنه من غير المتوقع، على المدى القريب، أن تتبوأ السيدة سوتشي زعامة بلادها على غرار قريناتها في الدول الآسيوية المجاورة، وذلك بسبب المادة 59 من دستور ميانمار الحالي التي تمنع الأشخاص الذين رزقوا بأبناء يحملون جنسية أجنبية، مثل «سو تشي»، التي لديها طفلان يحملان الجنسية البريطانية، من الوصول إلى سدة الرئاسة، علما بأن هذه المادة وضعتها الطغمة العسكرية الحاكمة خصيصاً للحيلولة دون رؤيتها يوماً ما في قيادة البلاد. وقد يقول قال: إن بإمكانها أن تعدل الدستور كما تشاء، طالما أنها تملك اليوم الأغلبية المطلقة داخل غرفتي البرلمان. غير أن ما قد يغيب عن البعض هو حقيقة أن المؤسسة العسكرية تملك حق «الفيتو» على أي تغيير دستوري. إن عملية انتخاب رئيس للبلاد تبدو معقدة بموجب الدستور الحالي الذي بدأ العمل به في عام 2008، إذ يلزمها انعقاد جلسة للبرلمان بغرفتيه، وفيها يقدم كل مجموعة من المجموعات الثلاث التالية: الأعضاء المنتخبون لمجلس النواب، والأعضاء المنتخبون لمجلس الشيوخ، والأعضاء المعينون في غرفتي البرلمان من قبل الجيش مرشحه الرئاسي، والفائز من هؤلاء الثلاثة يصبح رئيساً، والآخران يصحبان نائبين له. ومن هنا فإنْ أراد حزب «الرابطة الوطنية» أن يفوز مرشحه للرئاسة، فإن على الأخير أن يضمن أغلبية كبيرة من أصوات المقترعين في الجلسة المشتركة للبرلمان. لكن سواء انتخبتْ سو تشي رئيسة للبلاد في العام المقبل (كما هو مقرر) أو لم تنتخب فإنها ستبقى صاحبة الكلمة الأولى من وراء الكواليس، فيما سيبقى الرئيس مجرد دمية. والجدير بالذكر أنها صرحت لإحدى محطات التلفزة الهندية في مطلع أكتوبر قائلة: إن لديها شخصية مدنية لتولي الرئاسة إنْ فازت في الانتخابات دون أنْ تفصح عن اسمها. فمن هي هذه الشخصية يا ترى؟ هناك أكثر من اسم متداول. فالبعض يتداول اسم السياسي «يو شوي مان» رئيس مجلس النواب الحالي والذي كان رئيسا لحزب «إتحاد التضامن والتنمية» المدعوم من الجيش، قبل أنْ يعزله الجيش من المنصب الأخير في أعقاب اكتشافه لإتصالات سرية بينه وبين زعيمة المعارضة. البعض الآخر يتداول اسم «تن أو» (88 عاماً) الرئيس الأسبق لأركان الجيش وأحد مؤسسي حزب الرابطة الوطنية التي ظل مخلصا لسو تشي طيلة عقود من الزمن، لكن هذا المرشح قد يـُستبعد بسبب تقدمه في السن. وفريق ثالث يطرح اسم «وين تن» (74عاماً) وهو ضابط سابق في الجيش ومن المقربين لـ«سو تشي»، ويـُعرف عنه دفاعه عن مسلمي بورما في وجه المتطرفين من الكهنة البوذيين، لكن يـُقال إنّ ما يعيق انتخابه هو صحته المعتلة. وفريق رابع يقول إنّ اتفاقاً قد أبرم بين سو تشي والرئيس الحالي الجنرال السابق «تن سين» يتيح للأخير أن يبقى في سدة الرئاسة لمدة عامين آخرين قبل أن يتقاعد نهائياً من الخدمة، بشرط أن يستغل هذه الفترة في إجراء تعديلات دستورية تسمح بصعود «سو تشي» إلى الرئاسة، لكن هذا السيناريو يظل مرهوناً بمدى ثقة الأخيرة في الجنرال الذي كان أحد أعمدة النظام العسكري الديكتاتوري قبل أن يقود عملية الإصلاحات السياسية في عام 2012 بضغط دولي. والحال أنّ المشهد في بورما اليوم يذكرنا بما سبق وأنْ حدث في جنوب أفريقيا. حيث جرتْ في بورما انتخابات برلمانية نزيهة سمحت بفوز المعارضة، واعترفت السلطة الديكتاتورية العنيفة بهزيمتها واستعدادها لنقل السلطة سلميا، فيما دعت زعيمة المعارضة إلى المصالحة والوحدة الوطنية ونسيان الماضي.، وسط ترحيب ودعم دوليين. على أنه من المبكر تصور كيفية إدارة القادمين الجدد إلى الحكم في رانغون لعلاقات البلاد الخارجية ومشاكلها الداخلية، ولاسيما علاقات بورما بجارتيها الكبيرتين المتنافستين على النفوذ فيها (الهند والصين)، أو الطريقة التي سوف يتعاملون بها مع مسألة الأقليات، وتحديداً أقلية الروهينغا المضطهدة، ومسألة الحركات الانفصالية المسلحة.