على رغم أن حقل «الديمغرافيا السياسية»، الذي ينصب على دراسة حجم السكان وتركيبتهم وتوزيعهم وعلاقة ذلك بالحكم والسياسة، لم يحظ باهتمام كافٍ من علماء السياسة، يليق بأهميته وحيويته، فهو يعد من أبرز المسارات العلمية والحياتية التي تستوجب اهتمامنا، لاسيما أن هذا الحقل يتحدث في جانب مهم منه عما سيأتي، وليس فقط عن الوضع الراهن، بدءاً من المحليات وانتهاء بترتيبات النظامين الإقليمي والدولي. فاليوم تكاد الديمغرافيا تسيطر على أي نقاش تقريباً يتعلق بالتوجهات بعيدة المدى على المستوى المالي أو الوضع الاقتصادي أو السياسة الخارجية التي ينبغي أن تنتهجها الدول المتقدمة. ولهذا أحسن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية حين ترجم كتاب «الديمغرافيا السياسية: كيف تعيد التغيرات السكانية تشكيل الأمن الدولي والسياسة الوطنية؟»، الذي شاركت في تأليفه وتحريره نخبة من علماء السياسة والاجتماع والدراسات السكانية. لقد أمضى جيرار فرانسوا دومون وهو أستاذ في جامعة السوربون ومدير لحلقة بحث عن «الجيوسياسات» في معهد الدفاع التابع لقيادة أركان الجيوش الفرنسية، ومدير مجلة «السكان والمستقبل»، قرابة ربع قرن من الزمن وهو يبحث عن الإجابة على السؤال التالي: «هل يمكن للديمغرافيا أن تمنح قوانينها لعلم السياسة»؟ ثم جاء علماء سياسة أميركيون في مقدمتهم جاك جولدستون وإريك كوفمان ومونيكا توفت، لينشغلوا بالإجابة عن سؤال مفاده: كيف تعيد التغيرات السكانية تشكيل الأمن الدولي والسياسة الوطنية؟ والأولى بالخبراء والباحثين والكُتاب العرب أن ينشغلوا بالإجابة عن مثل هذه الأسئلة، وأن يكون الخيال حاضراً في أسئلتهم وإجاباتهم، وينطلقوا من طرح رؤية عامة حول السكان والسياسة، ليناقشوا أهمية دراسة الديمغرافيا السياسية، ويقوموا بتشريح الوضع السكاني الراهن عبر مسح عام لتكوينهم، ومسألة الهوية الدينية والتركيبة السكانية، من زاوية الطوائف والمذاهب وأنماط التدين، ثم الثقافة والسكان والسياسة وبصمات تنوع معارف المجتمع وقيمه على التوجهات السياسية، والسكان كعنصر من عناصر قوة الدولة من حيث الكم والكيف. والقوانين والتشريعات والخطط والسياسات التي تتعامل مع طبيعة السكان. وعلاقة النمو السكاني بالتطور الحضري وتوسع المدن والتجنيد الإلزامي، وقضايا الهجرة والنزوح، ومطالب الجيل الجديد من الشباب، وصعود دور النساء في العمل والتعليم والحياة الاجتماعية، ووضع الشيخوخة بين رعائية الدولة وتوريث التقاليد، والصحة الإنجابية وبناء الجيل القادم. وتأثير الديمغرافيا في الجغرافيا السياسية، والسياسات المالية، والصراعات الإثنية والدينية، وأنماط الاقتراع، ثم مستقبل الدولة القومية. وتأثير حجم السكان والبنية العمرية على ميزان القوى العالمي، ومستقبل الحروب، بعد أن ثبت أن بوسع جيوش كثيفة العدد ومتخلفة تقنياً أن تهزم جيوشاً قليلة العدد مزودة بأحدث الأسلحة والمعدات والعتاد. وكذلك وضع ما يسمى «حرب الأرحام»، التي تبدو ظاهرة في حالة فلسطين وأيرلندا الشمالية، حيث تؤدي سيطرة البنى العمرية الفتية على الميل إلى العنف لأن تكلفته أقل، والعكس صحيح. وبذا تبدو الديمغرافيا مكوناً بالغ الأهمية في صياغة العملية السياسية، وتأثيرها يمكن أن يكون مباشراً أو غير مباشر، وقد تحتل المرتبة الأولى أو الثانية أو الثالثة، وهي ضرورية ولكنها نادراً ما تكون كافية، ويمكن أن تعمل كعامل مسبب أو شَرطي، إلا أنه بصرف النظر عن طريقة عمل الديمغرافيا، فهي بكل أوجهها تحتاج بصوة ماسة إلى أن يتم إدراجها في الاتجاه السائد للعلوم السياسية. ولا يمكن لدراسة الأمن الدولي والسياسة العالمية أن تمضي قدماً من دون استيعاب الكيفية التي تؤثر بها المفاهيم والبيانات الرئيسية المتعلقة بالتغيرات السكانية في هذه القضايا. والتفكير في قضايا التركيبة السكانية يسير في اتجاهين، الأول هو عدم النظر إلى التركيبة السكانية باعتبارها قدَراً حتمياً، بما يؤدي إلى مقاومة آثارها السلبية، وخاصة تلك التي تتعلق برؤية عالم الاقتصاد توماس مالتوس (1766 1834)، الذي رأى أن السكان يتزايدون بمتوالية هندسية بينما الموارد تزيد بمتوالية حسابية، بما يقود إلى خلل شديد يحتاج إلى تدخل عوامل خارجية بغية إعادة التوازن بين نمو‏? ?السكان? ?ونمو ?المواد ?الغذائية، ?مثل ?الحروب ?والمجاعات? ?والأوبئة? ?والأمراض. ?فالتقدم ?العلمي ?والتقني ?عالج ?بمرور ?الوقت ?بعض ?هذه ?الآثار ?السلبية ?ولاسيما ?من ?خلال ?التقدم ?في ?«البايوتكنولوجيا» ?والهندسة ?الوراثية. ?أما ?الثاني ?فهو ?توقع ?ما ?يحدثه ?التطور ?الديمغرافي ?من ?تأثيرات ?في ?مختلف ?المجالات ?السياسية ?والاقتصادية، ?ووضع ?الخطط ?والاستراتيجيات ?التي ?تساعد ?في ?تقليل ?الآثار ?السلبية ?للنمو ?السكاني ?غير ?المتوازن ?كماً ?وكيفاً ?على ?المستويين ?المحلي ?والدولي، ?وتحويل ?السكان ?من ?عبء ?إلى ?ميزة.