لا يزال الاعتقاد السائد وحتى في قاعات الدرس أن العلاقات الدولية هي بين الدول، بالضبط كما هو موجود في التسمية، وفي الحقيقة هي تسمية مغروسة في العقول لأنها تعكس أصول العلاقات الدولية الحديثة، فمن المعروف أن هذه العلاقات ترجع في أصولها إلى سنة 1648 وإبرام معاهدة وستفاليا التي أنهت سيطرة الكنيسة على العلاقات بين الدول الأوروبية كنتيجة لما يسمى حرب الثلاثين عاماً. كانت النتيجة البارزة لهذه الحرب ذات الطابع الديني انحسار نفوذ الكنيسة البابوية وظهور الدولة القومية ذات السيادة الوطنية، أي التي لا تقبل أي تدخل خارجي أو سلطة أخرى أعلى من سلطة حكومتها. لقد أصبحت هذه الدولة ذات السيادة الوطنية ركيزة للعلاقات الدولية، وبالتالي اختزل الكثيرون التفاعلات الدولية بكل تشعباتها في العلاقات بين الدول فقط، وخاصة هذه العلاقات القتالية بجيوشها وآلاتها الحربية. لكن حتى قبل اشتداد وتيرة العولمة، بدأ بعض المتخصصين في لفت النظر إلى أهمية الفاعلين الدوليين من غير الدول، مثل الشركات المتعددة الجنسية أو حتى بعض مظاهر الجريمة المنظمة من المافيا إلى عصابات المخدرات في أفغانستان وأميركا اللاتينية. ثم هناك فاعلون دوليون غير دول ذوو طبيعة إثنية عرقية، مثل الأكراد، أو ذوو طبيعة دينية مثل التنظيم الدولي لـ«الإخوان المسلمين».. بل إن نتائج بعض الأبحاث أثبتت أن بعض هؤلاء الفاعلين غير الدول أقوى أحياناً من بعض الدول، كما تدل الإحصائيات أن شركة مثل «شل» أو «إكسون» تتمتع بدخل يفوق بكثير ميزانية ثماني أو تسع دول أفريقية مجتمعة. والواقع أن هناك الآن في عالمنا المعولم ما يقرب من 104 آلاف شركة من أمثال «وال مارت»، و«ميتسوبيشي»، و«جنرال إليكتريك»، و«سامسونج».. وهناك أيضاً نحو 8400 منظمة غير حكومية، مثل منظمة «العفو الدولية»، و«أطباء بلا حدود».. كل هذا العدد من الفاعلين الدوليين يزيد بكثير عن الدول التي لا يتعدى عددها حالياً 200 دولة عضو في الأمم المتحدة. الاستخلاص الهام إذن هو أن العلاقات الدولية- خاصة في زمن العولمة- هي علاقات متشعبة ومتنوعة، لا تقتصر على البعد القتالي بين جيوش الدول، لكنها ذات بُعد اجتماعي غاية في التشعب والتعقيد. مع ذلك التعقيد والتشعب يأتي الوجه القبيح للعلاقات الدولية الجديدة. هناك بالطبع جماعات المخدرات، والمافيا وتصفية الحسابات، وكذلك منظمات الاتجار بالبشر من نساء وأطفال، ثم هناك عمليات غسيل الأموال وتصفية الحسابات بوساطة ميليشيات منظمة ومرتزقة دوليين، أو حتى على مستوى محدود عن طريق بعض الكيانات الصغيرة التي تعطي لنفسها رسالة معينة لضمان التأييد العالمي وهي أبعد ما تكون عن أية رسالة نبيلة، حيث تجسد «داعش» أحد هذه الأمثلة. بعد حادث الطائرة الروسية التي حصدت في سماء مصر 227 قتيلاً بريئاً تأتي مذابح باريس، والتي لا تزال المعلومات حولها شحيحة وغاية في العمومية، لكن يُقال إن عدد الأموات هو 129 قتيلاً، وبالرغم من ضخامة هذا العدد فإنه مرشح للزيادة، وذلك لأن عدد المصابين كبير للغاية، وكثير منهم في العناية المركزة في المستشفيات الفرنسية. وبالرغم من هذه النتيجة المأساوية بالنسبة لعدد القتلى والمصابين، فهناك التأثيرات النفسية على الكثير من الفرنسيين وغيرهم من الأوروبيين جراء ما تعرضوا له وهم في ملعب لكرة القدم يشاهدون مباراة ودية، أو في المسرح يتمتعون برواية بوساطة ممثليهم المفضلين، أو حتى في مطعم مع أطفالهم لكي يعوضوا أسرهم عن الغياب خلال فترات العمل. أما الشعوب العربية والإسلامية وبالرغم من عدم مسؤوليتها عن هذا العمل الوحشي، فإنها لاشك ستعاني من القيود الأمنية التي ستزيد وكذلك من بعض النواحي العنصرية وزيادة نفوذ اليمين الأوروبي المتطرف. وهكذا وبالرغم من زيادة الهالة التي تحيط بالمجتمع المدني وتأثيره المتنامي في العلاقات الدولية الجديدة، فبالتأكيد ليس كل جديد جميل.