في تعليقه على الأحداث المأساوية التي هزت باريس مؤخراً قال الفيلسوف الفرنسي «رجيس دوبريه» إن الغرب قد انتقل من تمجيد الأبطال إلى تمجيد الضحايا، بعد أن أصبحت الحرب التي تصنع الأبطال من ذكرى الماضي فلم يبق له إلا الاحتفاء بالموتى. صحيح أن الرئيس أولاند استخدم مرات عديدة عبارة «حرب» في سياق توصيفه للمجزرة الإرهابية التي تعرض لها البارسيون، كما أعلن حرباً لا هوادة فيها ضد «داعش» التي خططت للاعتداء ونفذته، بيد أن مقولة حرب تظل بهذا المعنى نمطاً من المجاز في مواجهة عدو لا يشكل بالمعنى الدقيق دولة لها وجود قانوني وجيش محترف، كما أن الأفق السياسي لهذه الحرب غير جلي المآلات والنتيجة حتى لو تم تقويض ماكينة القتل والعنف التي عاثت في المنطقة فساداً ودماراً. في هذا السياق يبدو من المغري الحديث عن «حرب حضارية» بين القيم الحداثية المدنية و«الوحشية الإسلامية» كما نقرأ هذه الأيام في أدبيات اليمين المتطرف الأوروبي، في حين لا يتعلق الأمر في الحقيقة بعدو له منطلقاته العقدية والدينية حتى لو استخدم الحقل الديني ورقة تعبئة وشعار حركة. «الإرهابي المتطرف» يدخل في نطاق ما دعاه الكاتب الألماني هانس أنزنسبرغ «الضائع الراديكالي» الذي ليس هو الفاشل الذي يتحمل مكرهاً مصيره ولا الضحية الذي يأمل انتزاع حقوقه أو المهزوم الذي يقر بإخفاقه. إنه نموذج من البشر يختفي عن الناس ويختار العزلة لإعداد انتقامه الوحشي من الآخرين، تحركه نوازع الموت والرعب حتى لو تقمص مُثل الدين وقيم العقائد والأيديولوجيات. صحيح أن «الضائع الراديكالي» الظاهر اليوم هو المتطرف «الإسلامي»، لكن المرجعية العقدية ليست هي التي تحدد هوية ومسلك هذا النوع من الحالات، فالسمة المميزة لهذا النوع من الأفراد هي القطيعة مع كل مقاربة إنسانية أو ثقافية للدين تماهياً مستحيلاً مع ما يعتبره الحقيقة المطلقة التي لم تلوثها أفهام البشر وتأويلات المؤولين وتجارب المجتمعات. فـ «الضائع الراديكالي» في نهاية المطاف مغلق على نفسه، فاقد للتواصل مع الناس، أعداؤه هم أبناء دينه وجلدته قبل غيرهم لأنه يتهمهم بخيانة العقيدة والملة، فهم في عينيه أخطر من «العدو» المخالف في المعتقد، ومن هنا ندرك فظائع الاعتداءات الإرهابية التي استهدفت البلدان الإسلامية على يد «القاعدة» و«داعش». فالذين ربطوا المأساة «الداعشية» بتعطل مسار التجديد والاجتهاد في الإسلام (وهو مسار متعطل فعلًا) لم ينتبهوا إلى أن التقليد التراثي الإسلامي لا يشكل مرجعية مقبولة لدى المتطرفين العدميين الخارجين عن ضوابط أحكام الجهاد في الفقه الإسلامي الوسيط التي تنيط الحرب المشروعة بالإمامة الحاكمة وتمنع التعرض للعزل والنساء ورجال الدين. فإن كانوا يتصيدون في التراث الفقهي شواذ الأحكام والآراء، إلا أنهم في علاقتهم بالنص يرفضون الحوامل الثقافية التي هي جماع التقليد الإنساني المعيش للجماعة المسلمة في تفاعلها الحي مع واقعها وتاريخها. ومن هنا ندرك الطابع العنيف العدواني في سلوك الإرهابي الذي يدخل في باب ما أطلقت عليه الفيلسوفة الألمانية- الأميركية «حنة آرندت» مفهوم: «ابتذال الشر»، وتعني به نمطاً من الشر مغايراً للشر الجذري بالمفهوم الكانطي (أي غلبة الأهواء والنوازع على العقل)، إنه شر يستخدمه فرد يخضع لماكينة طبيعية متبلّدة، لا يرتبط بأي وشائج بالإنسانية، ويرتد في تعامله مع غيره من البشر إلى العلاقة البيولوجية الطبيعية الخام بحيث تغيب التجربة السياسية بمفهومها الدقيق أي تجربة العيش المشترك والتضامن الحي. وإذا كان «المجرم النازي» الذي تتحدث عنه «آرندت» هو نتاج ماكينة عنيفة استئصالية تختزل الإنسان في طبيعيته من منظور عنصري متناقض مع قيم المدنية الحديثة القائمة على المساواة في الحقوق الجوهرية، فإن الإرهابي المتطرف هو نتاج ماكينة تحول الدين إلى اداة للقتل وإلى ايديولوجيا للكراهية والعنف والعدوان. إن الفكرة الكبرى التي حملتها الديانات التوحيدية هي تنزل المقدس في التاريخ وإنابة الإنسان عن الإله وفق صياغات متعددة أخذت مفهوم «الاستخلاف» في التقليد الإسلامي، ولذا فإن التراث التوحيدي هو الذي ولد المرجعية المعيارية للقيم الإنسانية الحديثة وهو الخلفية العميقة لفكرة السياسة كائتلاف جماعي تعاضدي.. وليست هذه المرجعية خاصة بالتراث اليهودي- المسيحي كما يشيع هذه الأيام في خطاب الإسلاموفوبيا الصاعدة بل هي بارزة جلية في الإسلام نصاً وتراثاً وتقليداً حيّاً. ومن هنا فإن «الداعشي» ليس من بني ديننا ولا جلدتنا. -------------- أكاديمي موريتاني