في نصف القرن الأخير، دخلت العديد من الدول في شكل ما من أشكال الصراع الشامل. وقد عزا المفكر السياسي الأميركي «صمويل هنتينجتون» ذلك إلى ما أسماه «صراع الحضارات»، وهو مفهوم يركز بشكل أساسي على الجذور الثقافية والدينية لتلك الصراعات. في الوقت ذاته نظر البعض الآخر لتلك الصراعات على أنها في جوهرها نزاع بين أنظمة سياسية، ومنظومات قيمية مختلفة. أما أنا فتقديري أن تلك الصراعات ترجع لمزيج من السببين المذكورين. بعد الحرب العالمية الثانية، زعمت الولايات المتحدة الرأسمالية أنها تمثل «القيم الكونية»، في حين تعهد الاتحاد السوفييتي الاشتراكي بـ«تحرير البشرية كلها» ودخل البلدان بعد ذلك في عملية شد وجذب، استمرت لما يقرب من نصف قرن. وكانت أبرز النقاط المتعلقة بالنزاع الطويل الأمد بين القوتين المتنافستين خلال فترة الحرب الباردة هي: التوسع الخارجي، ونشر الأفكار، واتباع الأساليب اللازمة للمحافظة على القوة والنفوذ. و بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، تحولت الصين إلى قوة يحسب لها ألف حساب، عملت منذ البداية على رفع رايتها المميزة وهي «الاشتراكية ذات المواصفات الصينية». وبصرف النظر عن التسمية الصينية، فإن الصورة التي استقرت في أذهان معظم الناس خلال سني الحرب الباردة كانت صورة تحتوي على لونين فقط هما الأبيض والأسود: فأنت إما رأسمالي، وإما اشتراكي. وكان من الطبيعي بعد تفكك الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة أن تحل الصين محل الاتحاد السوفييتي كـ «دولة نقيضة» أو «نقيض موضوعي» للولايات المتحدة زعيمة الرأسمالية العالمية. والرواية السائدة في وسائل الإعلام الغربية بشأن الصين واضحة تماماً في دلالتها، وهي أن الصين أو «النموذج الصيني»، وما يرتبط به من سلوكيات وتصرفات، غير شرعي وغير قانوني، وغير عادل. والتابو المتعلق بالمواصفات الصينية لم يكن جديداً. فعلى نحو ما انتقلت الصين في المنظور الغربي من الخطر الأصفر إلى «التهديد الصيني» وفي النهاية إلى«الدولة النقيض»، وهو ما كان يمثل في جوهره نوعاً من التحسن التدريجي في وضعية الصين، التي وجد الأميركيون أنفسهم وبشكل شبه دائم في حيرة بالغة بشأن أسلوب التعامل معها. فبداية من فكرة «حرب بدون إطلاق رصاصة واحدة» التي تبناها جورج بوش الأب في أعقاب الحرب الباردة، والتي أُطلق عليها أيضا«التطور السلمي» كانت الولايات المتحدة تحاول دائما وضع يدها على الصين، بيد أن ما كان يحدث في كل مرة يتعرض فيها مفهوم «المواصفات الصينية» لخطر حقيقي من ناحية الغرب، كان الإرهابيون الشرق أوسطيون يقفزون من مكان ما، ويرتكبون أعمالاً كانت تساعد الصين على تجاوز الخطر. الولايات المتحدة، بعد الحادي عشر من سبتمبر كانت تميل لاتباع مقاربة «التطور السلمي» في علاقاتها مع الصين، وهو الأمر الذي تكرر في مناسبات عديدة بعد ذلك، ربما تكون آخرها الهجمات الإرهابية التي وقعت في باريس الأسبوع الماضي، والتي دخل الغرب بعدها في الورطة الأبدية التي يدخلها في كل مرة حينما يحاول فرز الأصدقاء عن الأعداء. ومن المنظور الغربي وسواء تعلق الأمر بـ«القيم الكونية» و«الشيوعية» أو«الظهور المفاجئ للجهاد» فإن هذه الإيديولوجيات في حقيقة أمرها تعمل على نفي بعضها بعضا، وتنتشر عبر العالم من خلال وسائل قادرة وفعالة. الجدير بالذكر أن «القيم الكونية» تحظى بقبول واسع النطاق بفضل تقليصها لعدد الحروب الدموية، وأن هناك عددا متزايدا على الدوام من الدول يتبنى هذه القيم على نحو طوعي. ولكن من حيث الجوهر، نجد أن اللاعبين الثلاثة الرئيسيين مازالوا يوظفون نفس الوسائل: فالشيوعية التقليدية مازالت تريد استخدام الوسائل العسكرية لتحرير البشرية، ومعسكر «القيم الكونية» يعتقد أن العالم يحتاج سلاماً دائماً واحتراماً لحقوق الإنسان. أما الإرهابيون الذين يزدادون توحشاً على الدوام فهم على استعداد للقضاء على كل من يعارض عقائدهم. لكن يجب علينا ألا ننسى أن هناك نموذجاً آخر خارج نماذج هؤلاء اللاعبين الثلاثة وهو نموذج «الاشتراكية بمواصفات صينية»، الذي تحاول فيه الصين استخدام مخزون حكمتها المتراكمة على مدى آلاف السنين، للتوصل إلى طريق فريد لحل المشاكل العالمية، من خلال السعي لإيجاد أرضية مشتركة بين الدول، واحترام كل دولة لخيارات غيرها في النظم السياسية والمنظومات القيمية، والعمل من أجل التعايش السلمي. يمكننا بالطبع أن نراهن بكل ما نملك على الثلاثة الأوائل الكبار، ولكن لماذا لا نجرب الرهان على «المواصفات الصينية» أو «النموذج الصيني» بدلا من ذلك. يانج هينجون محلل سياسي صيني- أسترالي ينشر بترتيب خاص مع خدمة «تريبيون نيوز سيرفس»