بين الدين والدولة هناك تمييز وليست مسألة فصل. فالدين مصدره إلهي، ونصوصه مقدسة وثابتة على مر العصور، بينما السياسة لها مصادر كثيرة دنيوية، ومن صنع البشر تختلف من مجتمع إلى آخر. والسياسة مجال للصراع بين الطبقات الاجتماعية على توزيع الموارد، وأيضاً مجال للمنافسة بين الأحزاب السياسية من أجل الوصول إلى السلطة، أي أن السياسة مصالح ويصعب الالتزام في ممارساتها غالباً بالمبادئ والأخلاق. والخطورة في توظيف الدين والسياسة بصورة متداخلة تكمن في وجوب التضحية بأحدهما في مرحلة ما أو موقف ما. ونعم الإسلام منهج متكامل للحياة من حيث التمسك والعمل بمحدداته ومبادئه في التعامل مع الآخر ومع النفس، وجعلها جزءاً من أخلاق السياسي وليس تسييس الدين لمصلحة السياسي، وضبط العلاقة بين الناس على اختلاف توجهاتهم والعلاقة بينهم وبين ربهم. ولكن بسبب الطبيعة البشرية لرجال الدين ينتهي الأمر لديهم بالاستيلاء على السلطة، والأمثلة كثيرة على ذلك، كون رجل الدين يريد أن يطبق فهمه هو فقط للسياسة بما يعتقد بأنه توجيه إلهي مباشر، وبذلك تصبح التفسيرات البشرية وهيمنة الطوائف أهم من وحدة الوطن وكرامة الإنسان وحرية الرأي. فهل وقع الإسلام ضحية للانحراف البشري المتمثل في التفسيرات والنهج الاختزالي الذي يدعي أن تشكيل حكومة إسلامية هو حل سحري وبداية تصحيح المسار لكل مشاكل الأمة؟ وفي المقابل، هناك من يُسخر الدين لخدمة الطغيان والطغاة. فلا هذا ولا ذاك، فالوسطية والشورى والمواطنة والعدالة والمساواة والتنمية هي الحل؟ فجوهر الإسلام التوحيد والتقوى والعدل وحفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، وذلك لا يحتاج إلى حكومة إسلامية، ويمكن أن يقوم به المسلم وهو في مجتمع هو المسلم الوحيد فيه. وأنا لا أدعي أن الدين كالملابس الخاصة التي يمكن أن توضع جانباً ونلبسها وقت العبادة والتعبد فقط، ولكن لا يوجد نموذج مفصل للدولة الإسلامية، يتضمن عمليات التقسيم الاجتماعي للعمل، والبيروقراطية والعلاقات الدولية. وحتى أوروبا لم يكن لديها الحكومات القريبة في شكلها ومضمونها ومفاهيمها من الحكومات الحديثة حتى القرن السادس عشر وبصورة نسبية جداً، فكيف للمرء أن يتوقع أن المدينة المنورة في قلب الجزيرة العربية كانت بها حكومة، ونحن نعرف طبيعة السكان فيها وتاريخ الصراع الدموي على الحكم في الإسلام. فليست هناك تعليمات في القرآن الكريم حول كيفية تشكيل الحكومة الإسلامية، وحتى لو كانت هناك آيات في القرآن، فإنها جميعاً تخضع لتفسيرات مختلفة. فبسبب جزئية المنتج البشري المنسوب للمقدس، وأسطورة الإقرار الجماعي، الذي هو إقرار خاص في حقيقته المجردة، أصبحت فئة من المسلمين تحترف الاعتداء على الآخر ورفض الاختلاف، وجعل تفسيرهم حجة على غيرهم بالإكراه المادي أو المعنوي أو الفكري أو الثلاثة معاً. ونحن نعلم أن في السياسة التفاوض والتنازل من أجل الوصول إلى حل، أمر مقبول من مختلف الأطراف، وفي الدين هناك تشريعات إلهية لا تفاوض فيها بين سياسة دين وسياسة دنيا. وبالرغم من أن النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، كان أكثر حكمة من جميع الناس، ومؤيد من رب العالمين، إلا أنه كان يأخذ رأي الآخرين في الأمور التي لديهم فيها خبرة أكثر منه، خاصة في أمور الحرب والسياسة والعديد من الأمور الدنيوية. والصراع السياسي بعد موت الرسول إلى يومنا هذا أمر بشري محض يدور حول طبيعة وظروف الإنسان والسلطة والهيمنة والقبيلة والعرق. وفهم القرآن وتأويله وتوظيف تفسير النص الديني والتقاليد والسنن المحمدية في ذلك الاتجاه ليس من صلب الرسالة السماوية للبشر. ورحل نبينا محمد عن الدنيا، ولم يترك خليفة، ولم يوصي بالخلافة وكيف يترك أمر مثل ذلك، ونحن اليوم نملك بين أيدينا مراجع تتحدث عن كيفية اغتسال المرء، وكيف يأكل طعامه، فما بالك بأمنه ومستقبل أمته والإسلام. ولذلك مفهوم الخلافة والإسلام السياسي في القرون التي تلت الصحابة رأي تم تأطيره وتقنينه وفق مقتضيات تلك المراحل الحرجة من تاريخ تأسيس الحضارة الإسلامية. والأمر برمته اجتهاد سياسي غُلّف بالدينو ولا يزال الخلاف عليه قائماً إلى يومنا هذا. فوجود الحكومة الإلهية في بيئة بشرية يتعارض مع ضرورة الحكم كالإدارة والمهارات والمعارف الناتجة عن العلوم الطبيعية والتجريبية، والتي تكتسب كنتيجة للممارسة والتخطيط والقيم الاجتماعية والقوانين التي تصدق على ثقافة وتقاليد شعب ما والحفاظ على البنية التحتية للمجتمع.