يتسابق صُناع القرار الآن في الغرب، الأميركي والأوروبي، على ذرف دموعهم، تعبيراً عن شعورهم بالخوف الرهيب مما يعيشونه في العالم الراهن، ويزداد الطين بِلّة حين يسهم الإعلام العالمي في مضاعفة ذلك الشعور في صفوف الشعوب بآخر وسائط الإعلام العالمي تقدماً وتطوراً. ويبدو الأمر كأن العالم توحّد في رعبه من الحاضر، ومن قادم الأيام القريبة، وفي دعواته لملاحقة المجرمين المعروفين والمفترضين. أما المفارقة في ذلك فتفصح عن نفسها من خلال ما يصرح به أصحاب القرار صباح مساء من ضرورة الإسراع في اجتثاث الإرهابيين بكل أطرافهم وفي كل أنحاء العالم. ويقع الناس هنا وهناك في حيْص بيص، متسائلين تساؤل العارف: ألم يكن أفضل لأصحاب القرار أولئك وأقل تكلفة وأعمق نتائج، أن يكونوا قبل سنين وعقود قد اتخذوا قراراتهم بالتأسيس لعالم أو لعوالم نظيفة يسودها العدل والحرية والمساواة ومن ثم خالية من «الثأرية» التاريخية خصوصاً بصيغتها الأكثر خطراً، التي هي الإرهاب! والحق، أن ذلك القول يحتاج إلى بعض التعديل النظري التاريخي القائم على أن الأمور لا تتعلق بالرغبة الذاتية والمؤسسة على السّبق التاريخي عبر اكتشافه والعمل بمقتضاه. فهنالك المصالح والرغبات العفوية المتوافقة مع هذه الأخيرة، إضافة إلى عوامل الجشع والأنانية والاستجهال وغيرها التي تسعى إلى لجْم النزعة الإنسانية لصالح رؤية تاريخية محدودة وضيقة ترى الأنا دون النحن. إنها نزعة خاسرة أمام آليات التغير التاريخي. وتأتي الأدلة الفاقعة في وضوحها لتعلن أن ما غُيّب طويلاً من مخاطر محاصرة بني البشر في لغتهم وكرامتهم خصوصاً، يظهر فجأة بعد أن يكون الأمر قد حُوّل من قانون تاريخي إلى «دسيسة» رخيصة ثمنها إشباع نهم من لا يشبع خصوصاً من أجسام بني البشر أولئك. وقد يكون ذلك أحد العوامل التي دعت الفيلسوف الألماني هيجل لنحت تعبير «مراوغة التاريخ». لنلاحظ، السوق التي وجدت قبل آلاف من السنين، تلتقي تماماً مع أقذر وأخطر ما أنتجته هذه الآلاف من السنين بصيغة ربما هي الأخطر مما نشأ في التاريخ بالنسبة إلى البشر. فقد بلغت هذه السوق الدورة الكونية، التي أفضت بها إلى أن تُعرّف بكونها «السوق المطلقة»، المتماهية مع النظام العولمي الرأسمالي الليبرالي، ثم الاستعماري الإمبريالي، فالعولمي الراهن، نعم، ها هنا يصبح المبدأ الوحشي في حز رؤوس البشر متماهياً مع السوق إياها. ومن ثم، فكلما ارتفعت قيمة الأشياء «السوقية» هبطت قيمة البشر. أهكذا الأمر، وما زلتم يا بني السوق تعلنون، الآن خصوصاً، بالتصدي لـ«داعش»! كيف ذلك يا أبناء السوق العولمية؟ عليَّ أن أُدعِّم زعمي هذا بأقصوصة طريفة: يحدثنا الدكتور هشام نشّابة في نص نشره في عمل جماعي شارك فيه عدد من الباحثين بعنوان: «النهوض العربي ومواكبة العصر» ما يلي: «قلت لمستمعي في إحدى الجامعات الأميركية: يقول ستيفن جران: إن من الخطأ أن يُحشر أي إنسان عند قدم الجدار لأنه عندئذ يتصرف بلا وعي ولا رادع وهذا تماماً ما أدى إلى ظهور الإرهاب، وعندما عرضت هذا التحليل في الأوساط الأكاديمية الأميركية، وجدت تجاوباً مشجعاً.. ولكن جاءني من همس في أذني: أنصحك بأن لا تؤكد كثيراً على فكرتك هذه، فإن الإدارة الأميركية تعتبر كل من يطرح موضوع أسباب الإرهاب، معادياً لأميركا». لكن الجديد، الذي قد يمكنه تعميق الإشكالية في عصرنا هذا يتمثل في أن غضّ النظر عما يحدث عالمياً، قد يدمر المصالح المسكوت عنها، والاستجابة للنظر فيه تؤسس لعالم أفضل من حيث الكرامة والعدالة: إذن، إمّا العصر معدَّلاً، وإما القبر!