عاشت فرنسا أياما صعبة، ولازالت تعيشها، بسبب إرهاب غاشم لا دين له ولا ملة، يأتي على الأخضر واليابس في انتهاك سافر للحياة والعيش المشترك. أولئك الشباب الذين قادوا عملياتهم الإرهابية بعضهم كان يملك مقهى للخمور والبعض الآخر كان لا يلازم الشعائر الدينية في شيء، وبعد عشية وضحاها، تصلبت عقولهم ليحملوا الأحزمة الناسفة والكلاشنيكوف ويرموا بها في وجه الأبرياء. حوالي ستة ملايين مسلم يعيشون في فرنسا والمساجد فيها ممتلئة وتقام الشعائر دون أية مشكلة، لأن طبيعة الدولة الفرنسية لا تتدخل في الاعتقاد الديني، وتحمي باسم تسيير الشأن العام والمصالح العامة أماكن العبادة. تصور معي لو وقعت هذه الأمور في مجتمعاتنا؟ لكنا قد نادينا بغلق كل الكنائس والأديرة. وهذا ما بدأ يدعو إليه بعض السياسيين الفرنسيين اليوم مطالبين بغلق كل المساجد التي تتبنى خطاً هجومياً ضد الثوابت الفرنسية ناهيك عن ترحيل أئمتها. أين هو المشكل إذن؟ المشكل فينا نحن. كيف أصبح هؤلاء الشباب الفرنسيون والبلجيكيون من أصول مسلمة إرهابيين؟ كيف تصلبت عقولهم وتحجرت أفكارهم في مجتمعات أمدتهم بكل أنواع الخيرات بما في ذلك حق الإقامة، ونفس الحقوق التي هي عند المواطنين الأصليين كالتغطية الصحية والتعويض عن عدم العمل والمساواة في الأجور. هؤلاء تم تخديرهم فكرياً وتلقينهم معطيات خاطئة ومغرضة وخطيرة عن حقيقة الدين و«الجهاد». اقتنعوا في طرفة عين بدعاوى زائفة سُربت بإحكام ومكر في إذهانهم القاصرة. وأولئك المنظرون الزائفون الذين كانوا وراء هذه الجاهلية الأولى، يمدّونهم من التراث الموهوم بما يناسبهم، ويتخيرون لأنفسهم ولهم من التأويلات المنحرفة ما كان منها مرجوحاً ويشيحون عما هو راجح، يتخطفون من الأقاويل المرسلة ويتركون الأقاويل الموثقة، يأخذون جزءاً من آية قرآنية ويتركون باقي الآية، ناهيك عن جهلهم بأسباب النزول وقواعد الناسخ والمنسوخ. هؤلاء الشباب ضلوا وأضلوا وارتووا من المخالطات والتداخلات والمغالطات، فازدادوا من ضحالة الفهم صلابة، واكتسبوا من ضيق الأفق شدة، ومن بعض المواقع الإلكترونية بريقاً كاذباً توحي إليهم بأنهم هم وحدهم الخلاص والأمل والنجاة، وهم في الأخير لا ولن يستهدفوا إلا روح الدين ووجه الحق وأصول الواجب. أعتب هنا، ومن منبر جريدة «الاتحاد» الغراء، على بعض العلماء والمفكرين المسلمين المتضلعين الذين يكتبون أو يمكن أن يكتبوا بلغة موليير وشكسبير غيابهم في الساحة الإنتاجية عن ديننا الإسلامي الوسطي المعتدل. وأعتب على المؤسسات والمنظمات الإقليمية الجامعة للدول العربية والإسلامية غياب استثمارها الهادف والمنتج في الفهم الحقيقي للدين ولتعاليم الشريعة و«الجهاد» وحرمة النفس، لتطعيم العقول بالفهم الصحيح والعلم السديد وللرد على أولئك الذين يضللون أبناء الجيل الثالث من المسلمين المقيمين في الغرب، ويزلونهم عن العقل باسم «الحاكمية» و«الجاهلية» و«الكفر»، حيث صار واجباً في نظرهم إعداد الأمر للخروج من غيابات «الجاهلية» والدخول في الحالة «الإسلامية»! وتغيير أبجديات النظام العالمي بعمليات إرهابية! وضرورة مؤازرة أولئك الذين يسعون حسب زعمهم لإقامة «الخلافة» الموهومة المزعومة، ولو كان ثمن ذلك مقاتلة العالم كله! ?والكارثة الأكبر أن شرعنة ?«الجهاد» ?بهذا ?المعنى ?الخاطئ الخطير ?أضحت وكأنها ?من ?المسلّمات! ?وهذا ?ليس ?بالشيء ?الجديد، ?إذ ?انفجرت ?السلفيات ?الجديدة ?منذ ?عقود ?خلت، ?وصولاً ?إلى ?«القاعدة» ?وأشباهها، ?ثم «?داعش»، ?فأضحت دعاوى ?الدين ?بأيدي ?قتلة، ?يتلاعبون ?ويتاجرون ?بها، ?لأنها ?تستمد ?من ?شعار ?إنتاج «?الخلافة» ?خطورتها ?وهي ?من ?خلال ?ذلك ?تدمر ?الدول ?والمجتمعات. الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند أعلن حرباً ضد «داعش»، وأعلن حالة الطوارئ لمدة ثلاثة أيام قبل أن يصادق البرلمان الفرنسي على تمديدها لثلاثة أشهر بناء على مقتضيات الدستور، وأقلعت حاملة الطائرات «شارل ديغول» من ميناء «تولون» إلى الخليج العربي، لقصف أماكن وجود عناصر «داعش» وطرق الإمدادات اللوجستية لهم. وتغيرت الأوراق الاستراتيجية حيث إن روسيا أصبحت حليفاً موثوقاً به في مواجهة «داعش» في المنطقة، ليُترك نظام الأسد وحلفاؤه الإيرانيون جانباً، ولتنسى قضية الشعب السوري بأكمله.. وهل كل هذا يكفي؟ لا. سيقضى على «داعش» كتجمع إرهابي في منطقة معينة كما قضي على «طالبان»، وستتعدل بعض من أمور السياسة رغماً عن الإيرانيين و«داعش» والأسد لأن الناس في حاجة إلى تسيير الشأن العام أي إلى سلطة سياسية حقيقية. ولكن أوجه الانزلاقات والانفجارات والخراب ستستمر هنا وهناك، وستظهر مجموعات إرهابية جديدة قد تخرج في أي ظرف وحين، إذا لم نستثمر في عقول الشباب في مجتمعاتنا العربية والمسلمة وفي المجتمعات الغربية على حد سواء، وخاصة أن مثل هذه العمليات الإرهابية أصبحت متواترة بشكل خطير، فهل من مستمع؟!