انشغلت وسائل الإعلام المحلية والعالمية طويلاً بحكاية الفتاة البشتونية الباكستانية «ملالا يوسف زاي»، ولاسيما بعد محاولة اغتيالها الفاشلة في أكتوبر 2012 من قبل حركة «طالبان»، بل إن جهات دولية عدة تسابقت لمنحها الجوائز، فحصلت مثلاً على جائزة نوبل للسلام لعام 2014 مناصفة مع الهندي «كايلاش ساتياري»، وجائزة السلام الدولية للأطفال التي تمنحها مؤسسة «كيدس رايتس الهولندية»، وجائزة «آنا بوليتكوفسكايا»، التي تمنحها منظمة «راو إن ور» البريطانية غير الحكومية. قد تستحق «ملالا» هذه الجوائز وما رافقها من اهتمام إعلامي واسع بسبب شجاعتها، ونشاطها الحقوقي، وتنديدها المستمر بانتهاك حركة «طالبان» باكستان لحقوق الفتيات في التعليم والعمل وحرية الاختيار. غير أن هناك غيرها - من الشخصيات الطبيعية والاعتبارية - ممن عملن طويلاً، وربما أكثر منها، في مجال الدفاع عن حقوق النساء الباكستانيات والأفغانيات في التعليم، دون أن تسلط عليهن الأضواء. ففي باكستان، التي يعاني أكثر من 70 بالمئة من نسائها من الأمية ولا يذهب 50 بالمئة من أطفالها إلى المدارس (وفقا لإحصائيات اليونيسيف) بسبب ندرة فرص التعليم، هناك «مؤسسة المواطنين» وهي منظمة تأسست في عام 1995 على يد مجموعة من الباكستانيين المعنيين بالحالة المأساوية للتعليم في بلادهم، وصارت اليوم توفر التعليم الجيد لأكثر من مئة ألف طفل وطفلة من مختلف أنحاء البلاد وفق برامج تعليمية مفتوحة للجميع بغض النظر عن الأصل أو الدين أو العرق أو الجنس، مستهدفة في المقام الأول إزالة الحواجز بين الطبقات الاجتماعية وإعطاء الذكور والإناث فرصاً متساوية في التعليم، وقد نجحت هذه المنظمة في تحقيق إنجازات غير مسبوقة. فخلال فترة زمنية وجيزة تمكنت من تحميس الأسر، التي كانت أسيرة لمفهوم عدم جدوى تعليم الإناث، لإرسال بناتها إلى المدرسة، كما نجحت في خلق كادر تعليمي نسائي ضخم (في حدود 5400 مُدرّسة ومديرة) لقيادة العملية التعليمية. مثل هذه المنظمة لم يتم إبراز دورها وإنجازاتها إعلامياً، ولم تنل أي جائزة عالمية، على غرار ما حدث مع «ملالا يوسف زاي». لكن من حسن الحظ أنه تم الانتباه مؤخراً إلى السيدة «سكينة يعقوبي» ــ من بعد تهميش طويل ــ وذلك من خلال تكريمها في مؤتمر القمة العالمي للابتكار في التعليم (وايز) في دورته السابعة التي عقدت في الدوحة أوائل نوفمبر الجاري، ومنحها جائزة «وايز» للتعليم لعام 2015. فمن هي هذه السيدة؟ وماذا فعلت كي تستحق التكريم؟ سكينة يعقوبي (65 عاماً)، التي يطلق عليها الأفغان لقب «أم التعليم في أفغانستان»، هي المؤسسة والمديرة التنفيذية للمعهد الأفغاني للتعليم، وهي منظمة أفغانية غير حكومية تدير اليوم أكثر من 150 مشروعا في التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية في مختلف أنحاء البلاد، علما بأن 83 بالمئة من العاملين فيها هم من النساء. أما أهداف المنظمة، فتشمل تطوير التفكير النقدي، وتعزيز الوعي الصحي لدى النساء، وتشجيع المرأة الأفغانية على تحدي التقاليد البالية، وغرس الثقة في نفوسهن بقدرتهن على منع استغلالهن من قبل العقلية الذكورية المحافظة. والسيدة «يعقوبي» لم تستحق التكريم لهذا السبب وحده، وإنما أيضاً بسبب قرارها الشجاع في منتصف التسعينات، حينما هجرت حياتها المريحة ورفاهيتها كطبيبة في الولايات المتحدة، وقررت العودة إلى بلادها المنهكة من الحروب الأهلية والتدخلات الخارجية والصراع القبلي من أجل المساهمة في إنقاذ بنات جنسها من قسوة ورعونة النظام «الطالباني». وقد تمثلت بداية نشاطها في إنشاء 80 مدرسة سرية تحت الأرض لتعليم نحو 3000 فتاة حرمتهن حركة «طالبان» من حقهن في التعليم. وهؤلاء الفتيات تم إعدادهن في الوقت نفسه لقيادة دفة تعليم غيرهن من نساء أفغانستان، فكانت النتيجة تخريج نحو عشرة آلاف مدرسة في تلك الحقبة المظلمة من تاريخ البلاد. ويمكن القول إنه منذ عام 1996 استفاد ما يقارب ثمانية ملايين أفغاني وأفغانية من برامج السيدة يعقوبي التعليمية والصحية، الأمر الذي شجع بعض الجهات على ترشيحها في عام 2005 ضمن 99 امرأة أخرى لنيل جائزة نوبل للسلام، لكن دون جدوى. تقول السيرة الذاتية المنشورة للسيدة «يعقوبي» إنها من مواليد ولاية هرات، وأنها في السبعينات من القرن الماضي تركت وطنها إلى الولايات المتحدة حيث نالت درجة بكالوريس في علوم الأحياء من جامعة باسيفيك، ثم درجة الماجستير في الصحة العامة من جامعة «لوما ليندا»، وهو ما أهلها لتعمل كاستشارية لبعض الوقت قبل أن تقرر في عام 1990 الذهاب إلى باكستان لتكون بالقرب من وطنها ولتساهم في تخفيف آلام مواطنيها في مخيمات اللاجئين الكئيبة في شمال باكستان. وفي هذ المنعطف الصعب من حياتها قـُدر لها العمل في منظمات الإغاثة وإعادة التأهيل التابعة للأمم المتحدة فتعلمت وأنجزت الكثير، وصار لديها خبرة عملية كافية استثمرتها لاحقا في بلدها على نحو ما أسلفنا. لقد نقلت «يعقوبي» قضية أطفال أفغانستان ونساء بلدها المضطهدات، وحاجتهن للتعليم والصحة والرعاية والإنقاذ من براثن تجار البشر والحروب إلى الولايات المتحدة وبريطانيا وتركيا واليونان وتايلاند وكوريا الجنوبية وكوستاريكا وكل مكان آخر دعيت إليه للمشاركة في مؤتمر أو ندوة، فهاجمت بشدة الجماعات المسلحة التي تغسل أدمغة الأطفال وتورطهم في صراعاتها وجرائمها الإرهابية، أو تقوم بالاعتداء على المدارس والمستشفيات ودور الرعاية. وطالبت بالإبلاغ عن خروقاتها، ومعاقبتها بتجفيف منابعها المالية، وضمها إلى قوائم العار الدولية، ومحاصرتها في كل زمان ومكان. د. عبدالله المدني* *أستاذ في العلاقات الدولية ومتخصص في الشأن الآسيوي