في كتابه الجديد «النظام العالمي الجديد» يروي وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر كيف ولدت الدولة الوطنية بعد مؤتمر الصلح الأوروبي في ويستفاليا في منتصف القرن السابع عشر، ويتزامن نشر هذه الرواية مع الاجتماعات الدولية أولاً في جنيف، ثم في فيينا حول كيفية معالجة الأزمة السورية بما يؤدي إلى إنتاج دولة وطنية جديدة. يقول كيسنجر، وهو أستاذ للعلوم السياسية قبل أن يتبوأ منصب وزير الخارجية: «إذا قام النظام السياسي - أي نظام سياسي - على القوة وحدها، وافتقر إلى الشرعية، فسيدمر ذاته». ويضيف في نظريته السياسية: «أما إذا تمسك بالحقائق المعنوية وافتقر إلى القوة اللازمة لفرض هذه الحقائق، فلن يقوى على الصمود».. ويرى كيسنجر أن «المشكلة اليوم هي أن الأطراف الدولية المختلفة ترى أن القوة والشرعية معطلتان. فالغرب غير قادر على فرض وجهات نظره في النظام الليبرالي، طالما أن روسيا تعتبر القيم الغربية مجرد حصان طروادة للتوسع على حساب مصالحها». ربما تفسر هذه النظرية السياسية أسباب الدوران في فراغ المساعي الدولية لحل الأزمة السورية بين الطرفين الدوليين الغرب (الولايات المتحدة) وروسيا. وذلك بعد أن خرجت هذه الأزمة من يد جامعة الدول العربية، وحتى من يد مجموعة أصدقاء الشعب السوري.. وأصبحت كرة تتقاذفها أقدام اللاعبين الدوليين الكبيرين: موسكو وواشنطن. في الأساس، ما كانت روسيا لتغامر بإرسال قواتها العسكرية إلى سوريا لو لم تكن واثقة من أنه لم تكن للولايات المتحدة ولا الاتحاد الأوروبي شهية في التصدي لهذه القوات. ولعل موقفهما من المغامرة الروسية يتماشى مع القاعدة التي تقول: «لم آمر بها.. ولم تسؤني». ولكن استخدام القوة ليس نهاية في حد ذاته. وهذا ما أكدت عليه روسيا في مباحثات فيينا، ذلك أن دور القوة هو فتح الطريق أمام التسوية السياسية، والتسوية تقوم على الحقائق المعنوية، كما سماها كيسنجر في كتابه، وهناك تصوران متناقضان لهذه الحقائق، التصور الغربي القائم على الليبرالية الديمقراطية، والتخوف الروسي الذي يعتبر هذا التصور حصان طروادة للالتفاف على المصالح الروسية ومحاصرتها، ومن هنا السؤال: كيف ستتم ولادة الدولة الوطنية السورية على يد طبيبين تتناقض نظرة كل منهما إلى كيفية استخراج المولود القادم من عملية «قيصرية» و«دموية»؟ لقد لعبت القوى الإرهابية التي امتدت ذراعها الدموية إلى قلب أوروبا (من خلال هجمات باريس)، وإلى قلب روسيا (من خلال عملية الطائرة المدنية التي أسقطت فوق سيناء)، دوراً في رفع بعض الحواجز التي كانت تعيق التفاهم بين اللاعبين المستفردين بالكرة السورية. وأعدت الطريق لتفاهم مشترك بينهما يقوم على أن محاربة الإرهاب تمر بالضرورة بإقامة دولة وطنية في سوريا. وبذلك بدت اجتماعات فيينا وكأنها ويستفاليا عربية ولكن في ظل التفاهم الروسي - الأميركي.. الذي يتمتع بمباركة عربية. فهل يرسم وزيرا خارجية الدولتين الأميركي جون كيري والروسي سيرجي لافروف، خريطة هذه الدولة على غرار ما فعله الدبلوماسيان البريطاني والفرنسي سايكس وبيكو في عام 1916؟ إن رسم خريطة سوريا الجديدة يعني على الأقل إعادة النظر في خريطة شمال العراق، وجنوب تركيا. وهذا يعني فتح «صندوق باندورا» على كل المفاجآت غير السارة في الشرق الأوسط.. وما أكثرها، وما أخطرها؟! ولابد أن هذا الأمر كان موضع بحث بين الرئيسين الأميركي أوباما والتركي أردوغان على هامش قمة العشرين في أنطاليا بتركيا. وكذلك بين الرئيسين أوباما وبوتين صاحب الدور المفقود في لعبة الأمم في الشرق الأوسط. تبين قراءة معمقة لكتاب الدكتور كيسنجر عن النظام العالمي بوضوح سذاجة الاعتقاد بأن كل مشكلة في العالم يمكن أن تحل بمعزل عن مشاكل العالم الأخرى، فلعبة الأمم بين الكبار أشبه ما تكون بلعبة الشطرنج.. فقبل أن يسقط الملك.. يسقط جنود.. وتتهاوى قلاع، وهذا ما حدث ويحدث في سوريا، أما دماء ودموع الضحايا من الشعب السوري، فليس لها أي حساب.. كما في كل لعبة أمم.