أقتبس عنوان هذا المقال مباشرة من الكتاب الذي نشره مؤخراً في الهيئة المصرية العامة للكتاب باحث علمي مبدع هو الدكتور «خالد أبو الليل» أستاذ مساعد الآدب الشعبي بآداب القاهرة. وللكتاب عنوان فرعي دال هو «رؤية جديدة من وجهة نظر المهمشين». والواقع أن هذا الكتاب الفريد سيُحدث ثورة في الكتابات التاريخية المصرية التي عادة ما تركز على القادة والزعماء وتعتمد– أكثر ما تعتمد- على الوثائق إنْ وجدت، أو على السير الذاتية لهم. غير أن هذا البحث الذى يؤرخ شعبياً لحقبة ثورة 23 يوليو 1952 منذ بداية الثورة حتى وفاة زعيمها «جمال عبدالناصر» يمارس كتابة التاريخ من أسفل ‏From Below ?وليس «?من ?أعلى» ?معتمداً ?على ?التاريخ ?الشفهي. وحتى نضع هذا الكتاب غير المسبوق في وضعه النظري والمنهجي الصحيح سأقتبس فقرة مهمة من مقال لي نشرته بجريدة «الأهرام» بتاريخ 30 مايو 2002 وكان عنوانه «كتابة التاريخ من القمم إلى السفوح». وبعد مقدمة قصيرة تحدثت فيها عن اهتماماتي الأصيلة بعلم التاريخ منذ بداية تكويني العلمي في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية منتصف الخمسينيات، والتي صقلتها في بعثتي العلمية إلى فرنسا (1964- 1967) ناقشت في فقرة أساسية موضوع «كيف يُكتب التاريخ»؟ ظلت كتابة التاريخ لآماد طويلة تركز على تاريخ النخب السياسية والاقتصادية والفكرية، أي تاريخ «القمم» بحيث أنها نادراً ما تطرقت إلى تاريخ الناس العاديين الذين يقبعون في «سفوح المجتمعات» إنْ صح التعبير. غير أنه حدثت في العقود الأخيرة ثورة نظرية ومنهجية في كتابة التاريخ، بحيث أخذ يشتد الاهتمام بتاريخ المواطنين العاديين الذي تجاهلتهم الكتابات التاريخية التقليدية ردحاً طويلاً من الزمان. وهذه الكتابة الجديدة أصبح يطلق عليها منذ منتصف الستينات «التاريخ من أسفل» ‏??History from below ?وقد ?تكفل ?الباحث «?جيم ?شارب» ?في ?فصل ?بنفس ?العنوان ?بالتأريخ ?لصعود ?هذه ?الكتابة ?الجديدة ?في ?كتاب ?صدر ?عام ?2001، ?عنوانه «?منظورات ?جديدة ?في ?الكتابة ?التاريخية»?. ويؤرخ «جيم شارب» بدقة لصعود هذا التاريخ الجديد. ويقرر أنه ربما كانت من أولى الإشارات إلى أهمية ممارسته قصيدة كتبها الكاتب المسرحي الألمانى الشهير «برتولد برخت» ونشرها بعنوان «أسئلة يطرحها عامل يمارس القراءة» والتي ورد فيها أهمية كتابة تواريخ الناس العاديين بدلاً من الانغلاق في التاريخ للأشخاص الذين يقبعون في القمة. غير أن المعالجة المتكاملة للموضوع جاءت في مقالة للمؤرخ الإنجليزي «إداورد توميسون» الذي كتب هو نفسه كتابه المعروف «تاريخ الطبقة العاملة الإنجليزية» وذلك في مقال له نشر عام 1966 في الملحق الأدبي لجريدة «التايمز» بعنوان «التاريخ من أسفل». ومنذ هذا التاريخ دخل هذا المفهوم في إطار اللغة التي يستخدمها المؤرخون. وفي عام 1985 نشر كتاب بعنوان «التاريخ من أسفل: دراسات في الاحتجاج الشعبي والإيديولوجية الشعبية»، حرره «فردريك كرانتز»، وحفل بفصول شتى في الموضوع. وتوالت بعد ذلك الدراسات والكتب التي حاولت أن تؤصل الموضوع وترسخ المفهوم. وأصبح هذا المنظور التاريخي له جاذبية خاصة وخصوصاً لشباب المؤرخين الذين يطمحون إلى فتح آفاق جديدة لعلم التاريخ، وطرق ميادين بحث مستحدثة، وقبل ذلك حكاية تاريخ الناس البسطاء من النساء والرجال الذين تم تجاهلهم في الكتابات التاريخية التقليدية. ولا يعني ذلك أن هذا المنظور الجديد لا يواجه مشكلات متعددة في التطبيق، فالعكس هو الصحيح. ولعل أهم هذه المشكلات هي مدى صحة الأدلة التي يتوصل إليها المؤرخ الجديد في ضوء المادة التاريخية الأصلية. غير أنه إذا كان «توميسون» في عرضه لتاريخ الطبقة العاملة الإنجليزية لم يجد صعوبة في العثور على اليوميات والمذكرات والخطابات والمواد الأخرى التي صاغ على ضوئها تاريخ الطبقة، فإن الرجوع إلى الوراء كثيراً تحوطه صعاب متعددة، لأنه من الصعب العثور على مثل هذه المواد قبل القرن الثامن عشر. غير أن المشكلات الأخرى لها طابع نظري، لعل أهمها ما هي الفئات التي يمكن القول إنها تقبع في «أسفل» البناء الاجتماعي؟ وما الذي يمكن أن نفعله بهذا التاريخ حتى لو نجحنا في كتابته؟ هذا السؤال الذي أثرته في مقالتي القديمة أتيح لباحث مبدع هو «خالد أبو الليل» أن يجيب عليه في كتابه الفذ. فقد يكون في إهداء الكتاب مفتاح الإجابة على هذا التساؤل وهو كما ورد في الكتاب- «إلى الغلابة من أبناء هذا الوطن صانعي الحدث أو من يسارعون للدفاع بصدورهم عنه في وجه الأعداء وأول من يكتوون بناره بعد الانتصار، وآخر من يفكر فيهم من كانوا سبباً في تتويجه بتاج الرئاسة». *كاتب ومفكر- مصر