بلا شك فإن «داعش» جماعة مسلحة متطرفة، وهي إسلامية حسب عقيدتها الدِّينية، وهذا مبعث اندفاعها، فوراء هذا الموت الكارثي الذي تمارسه، وجه مِن «الإخلاص الدِّيني»، وإذا كان الماء أو النَّار يُختاران كواسطة لعبادة عدد مِن الدِّيانات، على أنهما عنصران شريفان، يتم بهما التَّطهير، فلدى هذه الجماعة على ما يبدو «الدَّم»، العنصر المزكي والمُطهر، وليس بالضَّرورة أن تعلن عن طقوسها، ويكفي إعلاناً أن المنتسب إليها لا يُقبل إلا بالتعهد على قتل نفسه دليلاً على تفانيه الدِّيني! انشقت جماعات عديدة مِن الأديان، والتَّوالد مستمر، كلما تهيأت ظروفٌ ظهرت جماعةٌ، وما أن تظهر بعقيدتها الجديدة حتى تعلن أنها تمثل الدِّين الأصل لا سواها، ومَن يقرأ كتب الملل والنِّحل سيجد المئات مِن الجماعات التي ظهرت في الإسلام، وما وجود رواية تاريخية ما، تتحدث بغرائب عقيدة ما، إلا وهي تأكيد على أن الموضوع كان مطروحاً. فمع اتفاقنا، مثلاً على عدم وجود شخصية عبد الله بن سبأ، الشَّهيرة في تاريخ الملل والنحل والتَّاريخ العام، إلا أن مقالة السبئية كانت متداولة، وهناك مَن طرحها، فكيف وصلتنا إذا لم يكن شخص تقمص الدَّور. ويُنقل أن هذه الفرقة قالت عندما وصلها نعي علي بن أبي طالب (40ه) للذي نعاه: «كذبت لو جئتنا بدماغه في سبعين صِرة، وأقمت على قتله سبعين عدلاً لعلمنا أنه لم يمت، ولم يُقتل ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلاً وقسطاً» (النّوبختي، فرق الشِّيعة)، وقد سخر مِن الفكرة التي لم تلبث أن أصبحت متداولة على أنها عقيدة دينية. ولم يستطع علماء المسلمين، مِن المذهبَين، وقف هؤلاء، حتى أن تسميتهم بالغلاة لم تقطع تناسلهم (انظر، الطُّوسي، كتاب الغيبة). كذلك الحال، تناسلت فرقة الأزارقة، جماعة نافع بن الأزرق (قُتل 65ه)، مِن المسلمين أولاً، ضمن مَن عرفوا بالشُّراة أو الحرورية، والذين اشتهروا بتسمية الخوارج. فعندما وصل هؤلاء إلى عقيدة قتل الأطفال والقُعد، أصبح لهم كيان خاص وأفكار تعلقت بالانتقام ثأراً للدين على ما كانوا يظنون، مع أنهم كانوا على نقاوة دينية. فأحدهم لفظ رُطبة سقطت مِن نخلة غيره، واعتبروا قتل خنزير لأهل الذِّمة مفسدة في الأرض، لكنْ عندما تعلق أمر الدِّين في الخصم، وقيس الإيمان على أساس ذلك، جاؤوا بالصَّحابي عبد الله بن خباب بن الأرت (قُتل 37ه)، وكانت امرأته حُبلى مشارفة على الوضع «فأضجعوه فذبحوه وسال دمه في الماء، وأقبلوا على المرأة.. فبقروا بطنها» (الطبري، تاريخ الأمم والملوك). قد يُعتَرض علينا عندما نقول: إن تلك الجماعات والشَّخصيات، مِن الثَّائرين أو الحاكمين، ممَن أسرفوا في الدِّماء، كانوا متدينين يقومون اللَّيل ويقرأون القرآن، جادين في عباداتهم ومعاملاتهم. فلم يرائ الخوارج في مبالغاتهم بالنَّزاهة، مثلما ليس لأحد أن ينكر على «داعش» تدينهم وتفانيهم في الدِّين، حسب ما دخل في أدمغتهم، وأن الإخراج مِن الدِّين لا يؤثر في مكافحتهم، لأنهم يستخدمون الوصف نفسه ضد الجميع، فقد أُطلق نعت الملاحدة على النزاريين، وزعيمهم حسن الصَّبّاح (ت 518ه) وظلوا يتكاثرون ويمارسون الاغتيال لأكثر مِن مئتي عام. كذلك فسر ابن الجوزي (ت 597ه) قوّتهم بأنهم يدعون الأغبياء فيستجيبون إليهم (المنتظم في تاريخ الملوك والأمم). تفسير تلك الجماعات على أنها ملحدة ولا تكسب إلا الأغبياء، هو ما يتم به الآن تفسير ظاهرة «داعش»، فهم ضالون يبحثون عن الجهلاء لتوريطهم. لا نجد موضوعية في هذا التَّفسير الذي يحاول إبعادها عن كونها جماعة إسلامية. بل إنه دعائي أكثر منه واقعي لا يصلح إطلاقاً لعلاج ظاهرة خطيرة مثل هذا الموت الكارثي. خلاف ذلك أن تُقدم «داعش» نفسها كمدافع عن الدِّين، ولم يغرر بها، أو أخطأت في ما اجتهدت فيه، كما فسر بعض الإسلاميين الظاهرة. لا نجدهم قد ضلوا ولا زادوا، ولم يبتكروا مقالة مِن المقالات، بل كلّ ما يستخدمونه قد استُخدم في وقت الحرب أو المواجهة مِن قبلُ تحت غطاء الدين، ومازالت المعارض والمكتبات ملأى بالكتب التي تؤكد ذلك، وكأننا نعيش عصر الغزوات والفتوحات. لا أعتقد أن هناك وقتاً كان المسلمون فيه بحاجة إلى مراجعة الثقافة الدِّينية مثل هذا الوقت، لم يصل الأمر إلى ما هو عليه لولا توظيف الدين في تبرير كل قضية مجتمعية، صغيرة كانت أو كبيرة، حتى أُخذ الدِّين يُسحب مِن الضَّمائر إلى السَّاحات، مِن دون التفكير بالانقلابات التي تحدثها هذه الثَّقافة. فـ «داعش» ليسوا ملاحدةً ولا زنادقةً، إنما هم أبناء ثقافة دينية أعطت ثمارها في أفغانستان، وما أتى بعدها. مِن هنا يبدأ العلاج الفوري لـ «داعش»، والوقاية تُّحصِّنُ مما بعدها‏? ?مِن? ?القادمات. ------------------- *كاتب عراقي