قبل أيام قليلة، وفي نفس هذه المساحة، كنت قد استعرضت العلاقة بين بؤر الصراعات المسلحة، وبين تدهور الحالة الصحية العامة، وخصوصاً على صعيد انتشار أوبئة الأمراض المعدية، واحتمال انتقال هذه الأمراض للدول المجاورة، ومن ثم إلى الدول الأخرى المحيطة. ولتوضيح هذه الحقيقة، ضربت مثلاً بالحرب الأهلية المستعرة في القطر السوري منذ قرابة خمسة أعوام، وكيف أصبحت سوريا نقطة انطلاق لانتشار فيروس شلل الأطفال إلى العراق، بعد أن كان العراق خالياً من أية حالة إصابة لمدة 14 عاماً، ومصدراً أيضا لوباء الحصبة في الأردن عام 2013، بعد أن كانت المملكة على شفا إعلان خلوها من المرض، ونجاحها التام في القضاء على الفيروس المسبب له. وأيضاً، كيف أنه من السهل إدراك أن انتقال الأمراض المعدية إلى دول الجوار السوري، قد يجعل هذه الدول نفسها نقطة انطلاق إلى دول أخرى، من العراق إلى إيران وتركيا مثلاً، أو من الأردن إلى مصر ودول الخليج. ? وللأسف، في الأيام القليلة التي سبقت وتلت ذلك المقال، تواترت الأخبار عن انتشار وباء من مرض الكوليرا في العراق، ثم ظهور المرض لاحقاً في البحرين، وسلطنة عُمان، والكويت، على حسب بعض وسائل الإعلام، وهو ما يعود ليؤكد السلسلة المميتة، والمتصلة، بين الصراع المسلح، وفقدان الاستقرار السياسي المزمن، وبين انهيار البنية التحتية، مثل شبكات مياه الشرب والصرف الصحي، أو نظم الرعاية الصحية، وهو ما يؤدي بالتبعية إلى انتشار أوبئة الأمراض المعدية محلياً، ثم إلى دول الجوار. ? والمعروف أن العراق في حالة مستمرة، وغير منقطعة تقريباً، من الصراع المسلح في أشكاله المختلفة منذ 1980، مع بداية الحرب العراقية الإيرانية والتي استمرت تسع سنوات كاملة، ومروراً بغزو الكويت في 1990، وما تلاها من حرب الخليج الأولى وفرض حظر اقتصادي خانق، ثم الغزو الأميركي وحرب الخليج الثانية في 2003، ومن بعدها الصراع الطائفي بين السُّنة والشيعة، والعرقي بين الأكراد والعرب، ومؤخراً تداعيات الحرب الأهلية في سوريا، والتي تجسدت في احتلال «داعش» لمناطق شاسعة في الشمال والغرب. هذه الفترة الدموية في التاريخ العراقي الحديث، والتي استمرت لأكثر من 35 عاماً، أدت إلى تآكل البنية التحتية، وانهيارها التام أحياناً، بما في ذلك شبكات مياه الشرب ونظم الصرف الصحي. ويعتبر هذا الانهيار المزدوج، لشبكة مياه الشرب وشبكة الصرف الصحي، هو العامل الأساسي والرئيسي في انتشار ميكروب الكوليرا بين السكان المحليين، وللدول المجاورة. ? فالكوليرا هي مرض معد، تسببه بكتيريا عصوية الشكل، تعيش في الظروف الطبيعية في الماء الآسن عند مصبَّات الأنهار، ومناطق التقائها بالبحار والمحيطات، وتنتقل هذه البكتيريا إلى الشخص السليم عن طريق مياه الشرب أو الخضراوات أو الفواكه الملوثة ببقايا براز شخص مريض، وتنتج تأثيرات الكوليرا على الجسم البشري ليس من البكتيريا مباشرة، وإنما من سمومها التي تؤدي إلى فشل خلايا الأمعاء في امتصاص السوائل، وهو ما يظهر على شكل إسهال شديد، يؤدي إلى جفاف، ودخول المريض في غيبوبة، وتبدأ أعراض الكوليرا في الظهور بعد ساعات قليلة من الإصابة، وإذا لم يتم استبدال السوائل المفقودة من الجسم على وجه السرعة، فيمكن أن يلقى المريض حتفه في غضون أيام قليلة. وتظهر الإحصائيات الحديثة إصابة ما بين ثلاثة ملايين إلى خمسة ملايين شخص حول العالم بميكروب الكوليرا كل عام، يلقى منهم 120 ألفاً تقريباً حتفهم، وعلى رغم أن استخدام تقنيات تنقية مياه الشرب، وإضافة الكولورين، قد نجحا بشكل هائل في خفض معدلات الإصابة، خصوصاً في الدول الغنية والمتقدمة، فإن الظاهرة الحديثة لعولمة الأمراض لا زالت تسمح لميكروب الكوليرا بالبقاء والوجود، حتى في أغنى الدول وأكثرها تقدماً. وإذا خصصنا دول منطقة الخليج العربي بالذكر، سنجد أنها في وضع حرج إلى حد ما عندما يتعلق الأمر بمرض الكوليرا، ولعدة أسباب. ولكن على الرغم من ذلك، لا زال معدل الإصابة بالكوليرا بين سكان الخليج منخفضاً مقارنة بالمعدلات العالمية، بسبب شبكات مياه الشرب ونظم الصرف الصحي، التي تعتبر من الأفضل على مستوى العالم، وإن كان هذا الوضع الحالي الجيد، لا ينبغي أن يكون سبباً للتراخي والإهمال، أو لتجنب الحيطة والحذر في التعامل مع واحد من أخطر الأمراض المعدية التي يمكن أن تصيب البشر. ?