«قُلتُ لِحَجرٍ في الطريق: لا تَكُن معثرة للآخرين، ليتني حجرٌ مثلكَ، لا أتألَم. أجابَ الحَجرُ: آلمتَني الآن». في الأسبوع الماضي كان قلبي الحجر الذي ذكره شقيقي محمود البياتي في شعره المنثور. حجرَ مَعثرةٍ لأمسية «مجلس الأعمال العراقي» في عمان بذكرى مرور سنة على وفاة شقيقي. لم أستجب لدعوة سعد ناجي، الأمين العام للمجلس للمشاركة في الأمسية التي عُقدت برعاية سفير العراق في الأردن جواد هادي عباس. وتألمتُ كحجر، وأنا أتابع عبر «الأونلاين» الحديث الشجي في الأمسية للكاتب والباحث عبد الحسين شعبان عن شقيقي، وهو من أقرب أصدقائه. و«ربما أصلُ الحلزون إنسان رخوٌ اشتدت عليه وطأة الناس فتقوقع»، قال شقيقي في شعره المنثور. وقد تقوقعتُ، ولم أعد أميز ما إذا كانت حقيقة أم وهماً أمسية جمعت رجال أعمال وأدباء وفنانين ودبلوماسيين للاحتفاء بذكرى شقيقي الأديب، الذي ناهض الاحتلال والنظام الطائفي. و«يبحث الشخص عادة عن أمل. وفي رسوم ياسمين نرى العكس، الأمل يبحث عن شخص. سبب ذلك يعود إلى أن معظمنا مجهدون خائبون ويائسون»، كتب شقيقي في مقدمة دليل معرض «انحيازاً للأمل» المرافق للاحتفال، والذي ضم لوحات الفنانة ياسمين عمر زوجته وأم طفليه. وعندما تجولتُ في المعرض، الذي كان يُفترضُ أن نحضره أنا وشقيقي، وجدتني كبطل روايته الأخيرة «الهارب» التي صممت «ياسمين» غلافها وأشرف على إصدارها سعد ناجي يوم الاحتفال. «تناوَلَ حساء الدجاج واستلقى على الفراش. حَلم أن (زاير شناوة) ذهب إلى شيخ يدعى (شكر الله) مريدوه كثيرون. دخلتْ زوجته (فدوة) الكوخ، وهي ترسل نظرات بعينين مكحلتين وسّعهما الشبق. هَمَسَتْ بتواطؤ: نحن وحدنا». هكذا تبدأ رواية «الهارب» التي تُتابع شخصاً فاقد الذاكرة، عثر عليه الفلاح «شناوه» وزوجته «فدوة» مطروحاً على شاطئ الفرات. أطلقا عليه اسم ابنهما «بهاء» الذي غرق في الفرات، وسيكتشف عند رحيله إلى بغداد بحثاً عن نفسه أن اسمه «بهاء» فعلاً، وسيسمع «الشيخ شكر الله» يقول: «يا بني، كل الناس يريدون تحويل الحلم إلى واقع إلا أنتَ، تريد تحويل الواقع إلى حلم». وما بين «الآن وهنا»، و«هناك سابقاً» لا يجد سوى الفراغ، ولا يسمع سوى الأنين والوشوشات «كمن يتابع فلماً في التلفزيون فغفا، وحين استيقظ كان البث توقف، والشاشة ملأى بنقاط بيض وسود ترتعش». فقدان الماضي جعل «بهاء» يكتشف بغداد بعيني سائح أجنبي مبهور بفسيفساء أهلها، وحاراتها، ومنازلها، ومطاعمها، ومقاهيها، وحاناتها، وحماماتها الشعبية، وجوامعها، ومقابرها، وحتى قارئي البخت، ومنازل بائعات الهوى السرية. «سَرق العكاريتُ فَرَحكَ بعد اغتراب طويل عن الوطن. إذا رجعتَ اليوم، كُنْ يقظاً، لئلا يسرقوا أحزانك». قال البياتي في مقطوعته «عراق ما بعد 2003» المهداة إلى شقيقته كفاح، المنتجة في «بي بي سي». عرض المقطوعة فيلم غاب عن الأمسية أعدّه حسن عبدالرزاق، وهو باحث طبي في «الخلايا الجذعية»، ومؤلف مسرحية «عرس بغدادي» بالإنجليزية قدمتها مسارح لندن. وضَمّ الفيلم لقطات فيديو للبياتي، وذكريات أفراد عائلته عنه، وبصوتها الحميم قرأت مذيعة «بي بي سي» هاديا العلوي، وهي ابنة الكاتب والسياسي حسن العلوي، سطور مقطوعته التالية: «إذا فَشلتَ في كسب صديق جديد، أو الاحتفاظ بصديق قديم، لديك فرصة أخرى. إذا فَشلتَ في تحييد عدو، أو إيضاح سوء فهم، أو الاعتذار، لديك فرصة أخرى. إذا فشلت في الرد المناسب، أو الدفاع، أو الهجوم، لديك فرصة أخرى. إذا فشلت في فهم إنسان، أو فهم نفسك، لديك فرصة أخرى. إذا فشلت في الحب، لديك دائماً فرصة أخرى». --------------------- *مستشار في العلوم والتكنولوجيا