قرر الرئيس الأميركي أخيراً إرسال بضع عشرات من القوات الخاصة إلى سوريا لتقدّم المشورة لقوات المعارضة في محاربتها تنظيم «داعش». وأعلن عن القرار بالتزامن مع اختتام وزراء خارجية خمس عشرة دولة في فيينا للبحث في إمكانات التوافق على مبادئ رئيسية لحل سياسي للصراع العسكري الدائر في هذا البلد. وفيما قابلت روسيا وإيران هذه الخطوة باستنكار واستياء، كونها تمسّ باحتكارهما التدخل في سوريا، واجه القرار انتقادات في واشنطن اعتبرته «قليلاً ومتأخراً جداً»، بل يوفّر تأكيداً إضافياً بأن باراك أوباما لا يملك ولا يريد أن يملك إستراتيجية واضحة وحازمة لمحاربة الإرهاب. لكن آراء أخرى وجدت فيه تحوّلاً في سياسة أوباما، ليس مؤكداً ما نسبه الوزير جون كيري من «قوة وفاعلية» في قرار رئيسه، ففي ملتقى أبوظبي الإستراتيجي الثاني الذي نظّمه مركز الإمارات للسياسات، قبل أسبوع، خصّصت الجلسة الأخيرة لمسألة التطرف والإرهاب. كان المتحدّثون من الإمارات والسعودية والمغرب إلى جانب آخرين من الولايات المتحدة وبريطانيا، وكما في معظم المنتديات كانت الشكوى من النقص بالإستراتيجيات بارزة عند العرب في سياق نقدهم للنتائج الهزيلة التي حققها «التحالف الدولي»، في حين ركز الغربيون على البعد العقائدي الذي يعتبرون أن العرب والمسلمين مقصّرون في معالجته. لكنهم أقرّوا جميعاً بأن خريطة انتشار الجماعات المتطرفة توسّعت في الشرق الأوسط مستغلّة ضعف الدولة هنا وبؤر الفوضى هناك، كما لاحظوا أن وسائل المواجهة والمكافحة تتطور باستمرار إلا أن التنسيق بين الحكومات لا يزال دون مستوى التهديد. وقبل شهر دخلت روسيا على خط «الحرب على داعش» في سوريا، طارحة منهجية ليست جديدة لكنها قدّمتها باعتبارها أكثر فاعلية، إذ تحاول فيها سدّ ثغرة عدم وجود قوات برّية بالاعتماد على الجيش السوري، الذي اعتبره مسؤولون روس عديدون الأكثر تأهّلاً لمقاتلة التنظيم الإرهابي مستندين إلى كونه تسلّح وتدرّب لديهم ولا يزال لديهم نفوذ عليه. وكان العامل الآخر في هذه المنهجية الاعتماد أيضاً على مقاتلي ميليشيات نقلتها إيران إلى سوريا، غير أن التطبيق الروسي للخطط اقتضى أولاً دحر المعارضة السورية بغية تقوية النظام وجيشه قبل الشروع في الهجمات على مواقع «داعش»، لذا اشتعل الجدل حول طبيعة الدور الروسي الذي اصطدم باكراً بواقع لم يكن يجهله وإنْ أراد تجاوزه: فمحاربة الإرهاب مختلفة عن محاربة المعارضة، وكان النظام هو من خلط بينهما من دون وجه حق. لعل الصدمة الأخرى للروس كانت لدى اكتشافهم أن القوات البرّية المفترض أن تواكب الضربات الجوية ليست مؤهلة فعلاً، ثم إن طبيعتها الفئوية والمذهبية تفسد الهدف الذي انتدبت لتنفيذه في مناطق مناقضة فئوياً ومذهبياً. لذلك اضطر الروس للتريث في الحل العسكري واتجهوا إلى فيينا بحثاً عن حل سياسي. لكن ما هي نتيجة التحرك الروسي؟ عدا الهجمات الاستباقية التي بدأتها المعارضة، ها هو «داعش» يتحرّك أيضاً بغية التوسّع داخل سوريا مستفيداً من أن الروس يؤجّلون ضربه، كما سبق أن فعل في العراق بعدما تكيّف مع الضربات الأميركية. أي أن العقبات الموضوعية التي اصطدمت بها روسيا في سوريا مشابهة إلى حد كبير لتلك التي واجهتها الولايات المتحدة في العراق، مع فارق أن «التحالف الدولي» بنى لنفسه شبكة استخبارية خاصة في مناطق سيطرة «داعش»، أما روسيا فتعوّل بشكل خاص على شبكات النظام وإيران اللذين أثبتا سابقاً ومراراً أن لديهما أجندة ملتبسة بشأن هذا التنظيم، إذ يقاتلانه في مناطق ويستخدمانه في أخرى. ورغم اتفاقات التنسيق التي أبرمها الروس مع الأميركيين والإسرائيليين والأردنيين فإن دخولهم «الحرب على داعش» لم يساهم في تطوير أي إستراتيجية متماسكة وواعدة لا زمنياً ولا عملياتياً. مع تكاثر الفرقاء المزمعين على محاربة الإرهاب، ظلّ «داعش» المستفيد الوحيد من ضعف الإستراتيجيات أو ضياعها، إذ إن ترجيح مسؤوليته عن نسف الطائرة الروسية في أجواء سيناء عنى أن التنظيم تمكّن من توجيه ضربة مزدوجة للهيبة الروسية والاقتصاد المصري، والأهم أن إرهابه ربط سوريا والعراق بليبيا وسيناء، فيما لا يزال التحالف الأميركي يرفض مدّ حربه لتشمل أي مكان ينشط «داعش» فيه. لكن الأسوأ أن التنظيم أثبت قدرة على استثمار الارتباك والتخبّط لدى محاربيه المفترَضين، إلى حدٍّ ضخّم لديه الشعور بأن وحشيته هي التي تعزز إفلاته من العقاب بدل أن تقرّب نهايته.