ما يحدث في كندا ثورة في تشكيل الحكومات العصرية؛ نصف الحكومة الجديدة هناك من النساء، رجل سيخي بعمامته وزيراً للدفاع، ورجل مشلول على مقعد متحرك يقود وزارة، ورائد فضاء يشرف على وزارة المواصلات، ووزيرة للعدل من سكان كيبك الأصليين، وامرأة مسلمة من أفغانستان تتولى وزارة الإشراف على الديمقراطية! إنه منظر معبِّر ومثير، ذكرني بمجد الدولة العثمانية حين وصفها المؤرخ البريطاني توينبي في كتابه «مختصر دراسة التاريخ»، وهو ينقل عن سفير دولة آل هابسبرج لدى العثمانيين، حين يقول: حسدتهم حين رأيتهم يعتنون بالكفاءات، فمن وجدوه كفؤاً لوظيفة رقَّوه ليصعد في السلم الوظيفي إلى أعلى المراتب.. أما نحن -يقول السفير- فنُعنى بالباشق والصقر والنسر! وفي كندا هناك مجتمع إنساني يذكِّر بجمهورية أفلاطون أو مجتمع دولة الصحابة؛ إنه مجتمع المواطنة والانتماء، كما يقول عالم النفس «أبراهام ماسلو» في تصنيفه لهرم الحاجيات الإنسانية، حين يرسم هرماً من عدة طبقات؛ أسفله خمس حاجيات فسيولوجية من طعام يسد الرمق، وشراب يطفئ العطش، وسكن يقي الحر والبرد، ولباس يستر العورة، وبيت زوجية يأوي إليه الفرد فينشئ عائلة سعيدة.. وفي الطابق الثاني الأمن الاجتماعي.. أما الثالث فهو روح الانتماء والدفاع عن الوطن، وهنا نجد مثال كندا التي تمنح المهاجر إليها الإقامة الدائمة ثم الجنسية بعد ألف يوم من الإقامة. تمنيت لو أن الدول العربية تستقطب العقول والكفاءات، كما فعلت وتفعل أميركا، وكان ممن استقطبتهم أنريكو فيرمي الذي أقام أول مفاعل نووي، وإدوارد تيلر أبو القنبلة الهيدروجينية، وتيسلا الصربي أبو التيار الكهربائي المتردد.. لكن هيهات لما توعدون، فالعقليات العربية تحتاج إلى تطوير، والأفكار إلى تثوير.. فالحياة فرص، وما عند الله باقٍ وما عندكم ينفد، إنما يتذكر أولو الألباب. إنها كندا وذلك وجهها الإنساني الذي يحبب الناس في الهجرة إليها محمولين بتيار جارف من الرغبة والأمل، حاملين إليها عائلاتهم وثرواتهم، وذلك أحد أسرار قوة الغرب وتفوقه. هل نفهم لماذا يتدفق الناس إلى كندا من كل أصقاع المعمورة إذا كانت النهاية أن الشخص أو ابنه أو ابنته لا ينتظره الحصول على حق الهجرة والوطن والأمان والتعليم والصحة (كل مواطن كندي مؤمَّن طبياً، وكل من وصل سن الـ65 يخصص له راتب تقاعدي)، بل ربما أيضاً المنصب الوزاري كما حدث مع السيخي الذي تولى حقيبة الدفاع، وهي كما تعلمون وزارة سيادية أساسية وليست هامشية. بل تمنح كندا الوزارة لمُقعد مشلول في دلالة رائعة على اندماج كل قطاعات المجتمع في بناء دولة العدل. إنه من المحرج حقاً أن يطرح الإنسان هذا السؤال: أين شرع الله؟ وأين يتحقق؟ هل برسم كلمات الله أكبر على العلم العراقي؟ أم برفع شعارات تطبيق الشريعة وقطع الرؤوس كما تفعل «داعش»؟ كثير من الناس في العالم الإسلامي يتركون بلدانهم ويهاجرون إلى الغرب، فالشوق العميق إلى العدل يدفع عباد الله إلى هناك، كما تهاجر الطيور نحو الأماكن الدافئة والحبوب الوفيرة.