لقد دخلنا، على الأرجح أجواء موجة جديدة من النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، وبحكم تزامن أعمال العنف الحالية مع موسم الأعياد الدينية، فقد يكون من الوارد أن تنتهي بانتهاء هذا الموسم. ولا شك أن الاستجابة القمعية التي اتبعتها حكومة نتنياهو لن تؤدي إلى تراجع أعمال العنف، بل ستغذيها وتزيدها تفاقماً في المستقبل. ويتساءل كثيرون عما إن كانت هذه بداية انتفاضة ثالثة، لا يمكن التنبؤ بنتائجها؟ وعما إن كانت ستتحول، مع مرور الوقت، إلى مواجهة عارمة من نوع جديد؟ وما يمكن أن يؤجج تصعيد هذا الثوران الحالي هو وجود شبكات التواصل الاجتماعي على نطاق واسع، لأنها تسهل نشر الأخبار والتعبئة. فهل هذا هو ما سيقع، أم أن ما يجري الآن لا يعدو كونه عنفاً دورياً قاتلاً، لكنه يبقى في النهاية تحت السيطرة؟ إن هذا الاحتمال الأخير يبدو وارداً، وخاصة في ظل حالة الضعف التي تعاني منها الحكومتان الفلسطينية والإسرائيلية، وهو ما يفاقم حالة الراديكالية والتطرف في مجتمعيهما، دون أن تكونا في وضع يسمح لهما بفرض خط سياسي معين. إن أعمال العنف هذه إنما هي تذكير قاسٍ بالحقيقة، وأجراس إنذار تقرع بشكل دامٍ ومؤلم. ويعتقد محمود عباس أن صورته الإيجابية في العالم الغربي، ومظاهر الدعم التي يلقاها، من شأنهما دعم مساعيه الدبلوماسية التي يَعتقد أنها ستتعزز وستحقق مكاسب ذات رمزية كبيرة. صحيح أن فلسطين أصبحت الآن دولة عضواً في اليونسكو، وعضواً مراقباً في الأمم المتحدة يرفرف علمها فوق مقر المنظمة الدولية، لكن كل هذا لا يغير في واقع الأمر على الأرض شيئاً، من حيث استمرار الاحتلال العسكري، وممارسات التغول والقمع المترتبة عليه بصفة تلقائية. وفوق هذا فولاية عباس الرئاسية كان يفترض أن تنتهي منذ خمس سنوات، لذلك فهو يوصف من قبل منتقديه، بأنه يواجه عجزاً من حيث الشرعية الديمقراطية. وفي ظل عدم التمكن من تحقيق نتائج ملموسة، تعاني أيضاً مساعيه الدبلوماسية من عجز سياسي واستراتيجي، ومن ثم فالسؤال: ما الآفاق والحلول والفرص التي يمكن أن يقدمها للشباب الفلسطيني؟ ومن هنا فإن تهديده بالتحلل من أي التزام بالاتفاقات السابقة مع الإسرائيليين، يبدو تهديداً في فراغ، لأننا لا نرى ما يمكن أن يعنيه في النهاية! ولا شك أن الجميع متفقون على دعم مساعيه الرامية لتحقيق حل الدولتين، لكن فرص تحقق هذا الحل (الحلم) تبتعد أكثر فأكثر. أما القادة الإسرائيليون فيظنون أن وضع المراوحة والجمود الراهن يلعب في مصلحتهم. صحيح أن الضغوط الدبلوماسية عليهم تكاد تنعدم: فقد فاز نتنياهو في لعبة ليّ الأذرع ضد أوباما وهو ينتظر بفارغ الصبر انتهاء الولاية الرئاسية لهذا الأخير. والدول الأوروبية بدورها أذعنت هي أيضاً ودخلت بيت الطاعة لأسباب مختلفة. والدول العربية ليست في وضع يسمح لها بالدخول على خط المواجهة، وقد انفتحت عليها أبواب الصراع مع إيران، بينما تعد الهند وروسيا حليفتين لإسرائيل. والفلسطينيون لم يعودوا مرئيين من وراء جدار الفصل ولم يعد أحد يتحدث عنهم. وعموماً فمعسكر أنصار الاستيطان هو صاحب النفوذ في إسرائيل. ويبدو والحالة هذه، أنه من المجازفة بالنسبة لإسرائيل التفكير في تغيير المواقف، بدلاً من الرهان على تأبيد حالة الانسداد والجمود والمراوحة في المربع الأول. لكن ما لا يضعه هؤلاء في الحسبان هو أن إدامة الاحتلال العسكري في القرن الـ21 لم تعد ممكنة، ولا يمكن أن تواجه إلا بالرفض والإدانة والاستهجان. أما الاعتقاد بأن اتِّباع خط قاسٍ، وقمع غاشم، يمكن أن يؤدي لفرض الاستقرار، فهذا مجرد وهْم خادع، لا أكثر، إذ يكفي أن يرفض فصيل فلسطيني واحد الإذعان لقانون فرض إرادة الأقوى هذا، ليفلس ذلك الرهان، وينكشف عواره. ويبدو أن دورة العنف هذه -الهجمات الفلسطينية والقمع الغاشم والدعوات للانتقام- قد أفلتت الآن من عقالها، وسيكون من الصعب للغاية السيطرة عليها، في النهاية.