تناولت في المقالة الماضية تراجع نسبة المشاركة في المرحلة الأولى من الانتخابات التشريعية المصرية ودلالاته، وأركز اليوم على مؤشرات أخرى تشير إلى محدودية التغيير المتوقع حدوثه في الانتخابات بعد اكتمالها، غير أن الإشارة واجبة إلى ظواهر إيجابية كشفت عنها الانتخابات. وقد اعتبر كثيرون أن الحزب الحاكم في نظام مبارك هو الذي فاز بالانتخابات نظراً لأن أعضاء سابقين فيه حصلوا على عدد من المقاعد يكاد يكون ضعف عدد المقاعد التي حصل عليها أكبر الأحزاب الفائزة في الانتخابات وهو «المصريون الأحرار» (أكثر من ثمانين مقعداً للأول مقابل 41 للثاني). ووصفت هذه النتائج من البعض بأنها ثورة مضادة، وهو وصف مبالغ فيه لأنه يفترض أن هؤلاء قد رشحوا أنفسهم عن الحزب، وأنهم سيعملون في المجلس ككتلة حزبية، وآية الأمر أن ثمة معادلة كانت قائمة بين الحزب الوطني وقوى المال والقوى الاجتماعية: أعطونا تأييدكم نحقق لكم مصالحكم، وليس هناك أي مؤشر إلى تغيير المعادلة بأي حال. ويعني هذا أن «نواب الوطني» سيكونون نواباً عن مصالحهم الذاتية وليس عن نظام مبارك، وأن وجودهم لا يعني أن ثمة ثورة مضادة، بل إنه قد يعني أنه لم تحدث ثورة أصلاً في الحياة التشريعية المصرية. كان المؤشر الثاني المتوقع على محدودية التغيير هو استمرار تمثيل القوى الاجتماعية التقليدية ودور المال في الانتخابات، ولاشك أن هذه القوى قد شقت طريقها كالعادة إلى السلطة التشريعية، وتظهر دراسات النخبة البرلمانية المصرية احتكار أسر معينة لمقاعد برلمانية عبر تاريخ الحياة النيابية منذ بدايتها في القرن قبل الماضي، وليس متاحاً حتى الآن العدد الدقيق للفائزين المنتمين لهذه القوى حتى يمكننا الحكم على مدى تغلغل هذه الظاهرة في الحياة النيابية المصرية. وتجدر الإشارة إلى أن الانتماء لهذه القوى لا يعني إصدار أحكام سلبية على الأعضاء المحسوبين عليها، ولكن دلالته محصورة في استمرار نفوذها. أما المال فقد كان له دون شك دور ظاهر في الانتخابات سواء من خلال التمويل الضخم للحملات الدعائية أو للأسف شراء الأصوات، ولكن المؤشر الأخطر بكثير يتمثل في دور المال في تشكيل حزبي «المصريين الأحرار» و«مستقبل وطن» وهما الحزبان اللذان حظيا حتى الآن بأكبر عدد من المقاعد في انتخابات المرحلة الأولى (41 مقعداً للأول و36 للثاني) الأمر الذي يثير علامات استفهام حول ما إذا كان صعودهما يشير إلى تطور إيجابي في مسار الحياة الحزبية المصرية، أم إلى تصاعد تأثير المال في الحياة السياسية المصرية. وفي المقابل لوحظ تراجع الأحزاب التاريخية المصرية ممثلة في حزب «الوفد» الذي لم يحصد سوى 22 مقعداً، كما فشل حزب التجمع اليساري في الحصول على أي مقعد، أما التيار الذي ينسب نفسه للإسلام فقد غاب منه «الإخوان المسلمون» عن الانتخابات ولم يكن بمقدور قياداتهم بطبيعة الحال أن تتقدم أصلاً وإن كان من شبه المؤكد أنهم كانوا سيعانون من تراجع كبير في شعبيتهم نتيجة ممارساتهم ولجوئهم الفج إلى العنف. أما حزب «النور» السلفي الذي لم يناصب نظام 30 يونيو العداء علناً، وسمح له بالبقاء في الساحة السياسية في مخالفة صريحة للدستور لاعتبارات سياسية، فقد حصل على 11 مقعداً فقط من المقاعد التي حسمت حتى الآن أي بنسبة 4 في المئة، بعد أن كان قد حصد حوالي ربع مقاعد مجلس الشعب في انتخابات 2012، وإن كان الكاتب الصحفي المصري عماد الدين حسين قد لفت إلى أن التراجع في عدد المقاعد لا يعكس تراجعاً في أعداد المؤيدين للحزب لأن نظام القائمة المغلقة المطلقة مسؤول عن فقدانه مقاعد كثيرة، وكان من الممكن أن يحصل عليها لو اتبع نظام القوائم النسبية، ومع ذلك لا يمكن إغفال حقيقة تراجع قدرة الحزب على الفوز بالمقاعد الفردية. غير أن ثمة مؤشرات إيجابية ظاهرة تتمثل في زيادة الوعي السياسي ودور المرأة والشباب تبعث على التفاؤل بمستقبل أفضل للحياة البرلمانية المصرية أفضّل تناولها في مقال لاحق بعد أن تكتمل الانتخابات.