بمقياس العواصم الكبرى مثل طوكيو، بكين، نيودلهي، ميكسيكو سيتي أو القاهرة، تبدو أبوظبي مدينة صغيرة، وهي فعلاً كذلك، سواء في حجم السكان أو في المساحة الجغرافية، ولكنها ليست بالمرة فيما يخص «مجتمع المعرفة»، وهو أهم ما يتميز به القرن الحادي والعشرون، في مضمار مجتمع المعرفة، هكذا أصبحت أبوظبي فعلاً سوقاً عالمياً لتبادل الأفكار، وتُشكَّل تعويضاً كبيراً لتدهور مكانة عواصم مثل بيروت أو القاهرة في هذا المضمار. تنتشر بنوك الفكر لتتجاوب بسرعة مع أحداث العالم وخاصة أحداث منطقتنا، وهو تحدٍ ليس بالسهل حيث نشهد الآن تاريخا يُسرع الخطى بحيث أن أحداث الحاضر تُصبح ماضياً قبل أن ينتهي اليوم، من «داعش» وتطوراتها الدامية أو أسعار البترول وتقلباتها العالمية، أو مسيرة ومصير «الربيع العربي»، إذا كان هناك سمة مميزة لهذا القرن الحادي والعشرين بازدحام أحداثه وتكالب منافسيه، فإن هذه السمة هي بلاشك سوق الأفكار العالمي واشتداد وتيرته، وفي هذا تبدو أبوظبي كعاصمة كبيرة حقيقة، ليس فقط إقليمياً ولكن عالمياً أيضاً، هكذا وجدت أبوظبي ضالتها لكي تشكل ما يسمى Mega City، أي المدينة هائلة الحجم. هكذا في خلال شهر واحد فقط - شهر أكتوبر - حضرت إلى سوق أبوظبي للأفكار ثلاث مرات، وهو معدل تنقل سريع على كل المستويات، مهنية وشخصية أيضاً، حيث هناك متطلبات عمل من تدريس وكتابة وأبحاث في مقر الإقامة، وطبعاً مهام التواصل مع الأسرة، كما أني لا أعتقد أن حالتي هذه شخصية أو استثناء، حيث التقيت بعض الزملاء في هذه الندوات والمؤتمرات والذين لا يختلفون بالمرة عن حالتي، ولكن كانوا حريصين على الحضور إلى «مدينة معرفة عالمية». جاء المؤتمر الأول من مركز الإمارات للدراسات السياسية والاستراتيجية - تاريخياً المركز الأم - ليناقش «بناء الدولة والأمة»، في وقت تسيطر على المنطقة العربية - وحقيقة هذا العالم - تهاوي هذه الدولة، وانتشار ظاهرة الدولة الهشة أو الفاشلة، وتأثير هذا الانتشار على الاستقرار العالمي نفسه، فمنذ معاهدة وستفاليا في 1648 بعد الحروب الدينية لمدة 30 عاماً في أوروبا، شكّلت الدولة أهم معالم العالم الحديث، وبالتالي فإن فشل بعضها ثم انهياره هو بمثابة انهيار أحد ركائز هذا النظام العالمي واختفاء بوصلة توجيهه ومسيرته، لا يعني هذا بالطبع أن نقف في صف الدولة مهما كانت ومهما كان سلوك القائمين عليها، ولكن إشكالية بناء الدولة وفشلها هي إشكالية مهمة مهما كان رأينا، لقد أحسن مركز الإمارات الاختيار. المؤتمر الثاني في نفس الشهر كان المنتدى الرائع والرائد لجريدة «الاتحاد» وهو يحتفل هذا العام بذكراه العاشرة، وهو منتدى رائد فعلاً لأن هذه الجريدة شكّلت استثناء في تنظيم ملتقى لكتابها في صفحات وجهات نظر، حيث يتقابلون مباشرة ليس فقط للتعارف ولكن لتبادل الأفكار وتمحيصها، كان هذا المؤتمر العاشر لمنتدى الاتحاد عن «الحوثيين»، و«عاصفة الحزم» ووضع اليمن عامة في المنظومة الخليجية والعربية، والذي كان تتويجاً لأعمال المنتدى على المستوى الشخصي والعلمي، حيث تواصل مع إشكالية الدولة الهشة/ الفاشلة بالتحليل التطبيقي، وقد تناول موضوع المنتدى على صفحات هذه الجريدة العديد من الزملاء بالتعليق والتحليل. المؤتمر الثالث جاء من وليد جديد نسبياً، وهو مركز الإمارات للسياسات، والذي كان من الابتكار والإبداع بحيث إنه اختط لنفسه مكاناً خاصاً في سوق الأفكار المزدحم هذا: وهو الملتقى الاستراتيجي العالمي الذي عقد دورته الأولى العام الماضي وينعقد حالياً في دورته السنوية الثانية، ولذلك يستحق «ملتقى أبوظبي الاستراتيجي الثاني» مقالة خاصة بعد انتهاء أعماله. ولكن هناك سمات مهمة يمكن التأكيد عليها لهذا الوليد الجديد، والذي بدأ تأثير إبداعيته في التنظيم والممارسة يتعدى بكثير عمر المركز الرقمي، أي العامين، فهو استراتيجي، أي يركز على الصورة العامة دون التفاصيل وذلك لتحقيق فهم أفضل بين الفاعلين الدوليين والإقليميين في جو من تبادل أفكار مستقلة فعلاً، وعصف ذهني بين النخب الفكرية العربية والدولية. نقطتان أخيرتان في عجالة: 1- مساهمة نشطة لنخبة فكرية إماراتية، بما فيهم النساء، حيث يتميز مركز الإمارات للدراسات بقيادة نسائية من النشأة وحتى الممارسة، وعلى أفضل المستويات المهنية والعلمية طبقاً للمعايير العالمية. 2- التواصل بين المفكرين والممارسين لتجاوز الفجوة الكبيرة في هذه الناحية، فبالإضافة إلى وجود الممارسين الإماراتيين من دوائر الإعلام أو وزارة الخارجية أو غيرها من الإدارات وعلى مستوى راق، كان مثلاً حضور معالي الدكتور أنور قرقاش، وزير الشؤون الخارجية في ملتقى أبوظبي الاستراتيجي الثاني لافتاً للنظر. هنيئاً إذن للمفكرين العرب ولأبوظبي بوجودها المكثف في سوق الأفكار العالمي.