دفع العالم كثيراً ثمن أخطاء ارتكبتها دول كبرى في مراحل مختلفة في التاريخ الحديث. وليس جديداً أن تكون فواتير هذه الأخطاء باهظة، على النحو الذي تعاني منه شعوب عدة في عالم اليوم، خاصة في منطقة الشرق الأوسط. غير أن الخبرات التي تراكمت على مدى فترة طويلة تنطوي على دروس ثمينة يكفي استيعاب بعضها لوضع حد لأخطاء متزايدة ترتكبها إدارة الرئيس أوباما، خاصة في ظل التقدم الذي حدث في العلم السياسي ومناهج إدارة العلاقات الدولية. لكن ضعف إمكانات الفريق الذي يعمل مع أوباما، وافتقاده أهم ما تحتاجه الولايات المتحدة اليوم وهو الإبداع في تطوير أدوات جديدة لسياستها الخارجية، يجعله أسير إعادة إنتاج مناهج تقليدية في غير محلها أحياناً، وفي غياب استراتيجية واضحة ومتكاملة في كثير من الأحيان. ويبدو افتقاد الرؤى الاستراتيجية هو المظهر الرئيس لأخطاء إدارة أوباما، والمصدر الأول بالتالي للأخطار المترتبة عليها. فعلى مدى أكثر من ست سنوات، عجزت إدارة أوباما عن تجاوز العمل التكتيكي الذي اعتمدت عليه منذ أن تصورت إمكان إنهاء المعارك التي فتحتها إدارتا بوش بسهولة. فالتكتيك هو بطابعه سياسة قصيرة أو متوسطة الأجل يُفترض أن تُستخدم لتنفيذ استراتيجيات أطول أمداً. ولا تعتمد التكتيكات بالتالي، وبخلاف الاستراتيجيات، على رؤية متكاملة أو خطة مدروسة تتضمن خيارات وبدائل اعتماداً على سيناريوهات محددة. لذلك يؤدي الاعتماد عليها طول الوقت إلى عواقب وخيمة لا يتوقعها صانعو السياسة التكتيكية، ويصعب عليهم غالباً إدارتها حين تقع. وقد وصل انغماس أوباما وفريقه في العمل التكتيكي إلى افتقاد المبادرة حتى فيما تبدو الولايات المتحدة مبادرةً فيه، والبقاء في موقع رد الفعل وإدارة الأزمات يوماً بيوم، على النحو الذي حدث في المفاوضات مع إيران، كما في الحرب على «داعش». فقد أقدم فريق أوباما على إجراء مفاوضات مع إيران بلا رؤية استراتيجية منذ اللحظة الأولى في ديسمبر 2013، ومن دون خيارات محددة في حال فشلها، أي دخلوها بلا خطة للخروج منها تتضمن سيناريوهات مختلفة. لذلك بدا كثير من الأحيان أن نجاح المفاوضات صار هدفاً في حد ذاته. لذلك جاء الاتفاق الذي أعلن عنه في 14 يوليو الماضي مؤشراً جديداً على المدى الذي بلغه اعتماد فريق أوباما العمل التكتيكي من دون رؤية واضحة. فعلى الرغم من التنازلات الكبيرة التي قدمتها إيران بالفعل، والفرص التي قد يحملها هذا الاتفاق، فهو يجعل مهمة الوكالة الدولية للطاقة الذرية صعبة حتى في حال تحليها بيقظة فائقة طول الوقت، واعتمادها على أكثر موظفيها خبرة وقدرة وكفاءة. ويختلف ذلك كثيراً عن مفاوضات السلام بين مصر وإسرائيل التي رعتها الولايات المتحدة. فقد أدارت إدارة كارتر تلك المفاوضات من خلال رؤية واضحة منذ أن جمعت الطرفين في كامب ديفيد في سبتمبر 1978. لذلك اتسم الاتفاق الذي تم التوصل إليه بوضوح شبه تام على نحو حال دون اختلاف ذي شأن في أي من بنوده، وسهَّل التوصل إلى معاهدة السلام في مارس 1979. فقد كان لدى كارتر وفريقه رؤية استراتيجية لعلاقات مصرية إسرائيلية جديدة، وليس فقط لاتفاق يقود إلى معاهدة سلمية. غير أن افتقاد فريق أوباما الرؤية الاستراتيجية يجعله أسير مواقف تكتيكية، سواء حين يسعى لاحتواء أزمة أو حين يعقد العزم على مواجهة خطر أو تهديد. ونجد ما يدل على ذلك في التعامل مع أزمات عدة في الفترة الأخيرة، كما حدث مثلًا في بيان جنيف 2012 بشأن الأزمة السورية، واتفاق مينسك في فبراير 2015 حول الأزمة الأوكرانية. وربما يأتي وقت يعترف فيه واحد أو أكثر من فريق أوباما بعدم وجود استراتيجية لهذه الإدارة بوجه عام. وقد لا يتأخر هذا الاعتراف كثيراً قياساً على إقرار وزير الدفاع كاترين آشتون قبل أسابيع عدة بأن الولايات المتحدة لا تملك استراتيجية لمواجهة تنظيم «داعش» بعد ما يقرب من عام على إعلانها تحالفاً دولياً واسعاً ضده!