في مداخلتي في منتدى «الاتحاد» العاشر قبل أسبوعين تحدثت عن إرهاصات مخاض شرق أوسط جديد أكثر خطورة وتحدياً وعنفاً وفوضى وتنافساً على ملء الفراغ الاستراتيجي والأمني، وسط تقاطع مشاريع إقليمية ودولية متنافسة على رقعة شطرنج منطقتنا، وتستخدم شعوبنا العربية وقوداً ومسرحاً لمشاريعها وصراعاتها! ويخبرنا مديرو الاستخبارات الغربية الحاليون والسابقون بأن الشرق الأوسط، كما عرفناه، قد انتهى إلى غير رجعة! ويذهب بعضهم للحديث عن نهاية الدولة، كما كنا نعرفها في سوريا والعراق. ونهاية نظام «سايكس- بيكو» في مئويته الأولى بتقسيم دول المنطقة فعلياً، أو كأمر واقع، وتحول دول أخرى إلى دول فاشلة. وتراجع مركزية ومكانة الدولة أمام تقدم الفاعلين من غير الدول من مليشيات وتنظيمات مسلحة! وفي الشرق الأوسط الجديد، تحولت دول مجلس التعاون الخليجي إلى القلب وهي من يقود النظام العربي بكل وضوح، وهذا ما أكدتُ عليه في ملتقى «الاتحاد» وسط احتجاج بعض الزملاء والتشكيك في ذلك. وقد كررته في الأسبوع الماضي في مؤتمر آخر وسط المزيد من القبول بقيادة الخليجيين للنظام العربي لغياب أي طرف منافس آخر يمكنه تسلم راية القيادة. وفي الشرق الأوسط الجديد تحولت دول القلب التقليدية المركزية في المشرق العربي، وعلى رأسها مصر والعراق وسوريا، إلى دول الأطراف، بسبب غرق مصر في تحدياتها وشؤونها الداخلية الضاغطة من أمنية واقتصادية وسياسية واجتماعية. وتفكك العراق، ونزيف سوريا، حتى أن وكالة الاستخبارات العسكرية الأميركية تؤكد أن سوريا والعراق الماضيين انتهيا ولم يعد لهما وجود! ناهيك عن كونهما من أكثر الدول فشلاً في النظام العالمي. وفي الشرق الأوسط الجديد أيضاً جاء دخول روسيا على خط الصدع في سوريا. وصارت لاعباً فاعلًا في قضايا المنطقة، بكيفية قد لا تبقى مقتصرة على سوريا وحدها، حيث تقاتل روسيا وتتوسط في مناطق نفوذ أميركا في الشرق الأوسط، وضفاف المتوسط، وذلك للمرة الأولى منذ عقود. كما تدعو لاجتماعات، وتتمسك بالأسد مع إيران، حيث يتبلور حلف في الشرق الأوسط الجديد يضم روسيا وإيران والعراق وسوريا و«حزب الله»! وعلى رغم نزيف روسيا بفعل اقتصادها المأزوم، وتراجع دخلها إلى النصف بفعل انخفاض أسعار النفط، إلا أنها ماضية في مقارعة أميركا في مناطق نفوذها المباشرة في قلب الشرق الأوسط عبر سوريا. وتوظف روسيا بدهاء الورقة السورية لتصفية حسابات مع أميركا والغرب كرافعة للحصول على تنازلات في أوكرانيا والقوقاز، ولتوسيع شبكة مصالحها مع أوروبا وإسرائيل، وكذلك خط أنابيب الطاقة عبر تركيا، وهي تسعى لرفع العقوبات عنها، والحصول على طائرات بدون طيار إسرائيلية! وقد راهن الغرب بقيادة أميركا على إيران عن عمد أو بحسابات خاطئة تحت حجة الحرب على التطرف والإرهاب، لتصبح دولة محورية في قضايا المنطقة. ولأول مرة تجلس إيران على طاولة مفاوضات مع الولايات المتحدة والغرب والعرب لتتفاوض حول شأن غير الشأن النووي. وعلى رغم تأكيد المرشد الأعلى أكثر من مرة أن إيران لا تثق بـ«الشيطان الأكبر»، ولن تتفاوض معه إلا على الشأن النووي وليس حول أي شأن آخر -وفي عقلية طهران لا توجد «تنازلات بطولية» للولايات المتحدة سوى حول الشأن النووي الذي تم التوصل إلى اتفاقه بفيينا في منتصف شهر يوليو 2015- وهكذا تجلس على طاولة التفاوض حول قضايا إقليمية تبدأ بسوريا وقد تشمل مستقبلًا العراق وغيرهما من الملفات التي استثمرت فيها إيران وتمسك بملفاتها بدهاء. وترى الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا أن إيران هي الفرس الذي يجب الرهان عليه غاضين النظر عن دور طهران ونشاطها ومشروعها التدخلي، ولذا يلاحظ عدم استهدافها مع حلفائها وأذرعها في المنطقة على رغم اعتراف وزير الخارجية الأميركي جون كيري في كلمة ألقاها في مؤسسة «كارنيجي» في الأسبوع الماضي، بعلم واشنطن بتصرفات وأنشطة إيران المزعزعة للأمن والاستقرار في الشرق الأوسط! ولكن لا يبدو أن واشنطن في وارد أن تقوم باتخاذ أي إجراءات أو خطوات للتصدي لمخطط إيران وحلفائها، أو حتى توجيه انتقادات لسياستها، على رغم تهديد مصالح وأمن واستقرار حلفاء واشنطن في منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط. وفي الشرق الأوسط الجديد أيضاً تستمر إدارة أوباما في التخبط وتكرار الأخطاء القاتلة والمكلفة حول قضايا المنطقة، وآخرها الارتجال والحلول الترقيعية في سوريا بدعم معارضة معتدلة ومن ثم إلغاء خطة الدعم بعد إنفاق 500 مليون دولار. ثم قرار إدارة أوباما في الأسبوع الماضي إرسال 50 من القوات الخاصة إلى شمال سوريا للتنسيق ومواجهة تنظيم «داعش» وإرسال مقاتلات لقاعدة إنجرليك في تركيا. ولهذا السبب لم يعد ترفاً الحديث بجدية عن ضرورة مشروع عربي يتصدى ويوازن تلك المشاريع التدخلية ويسعى للمشاركة في ملء الفراغ، حتى لا نبقى وقوداً ومسرحاً لتصفية الحسابات وتحقيق مصالح الآخرين على حسابنا. وهنا تبرز دول مجلس التعاون الخليجي كخيار وحيد لقيادة ما تبقى من النظام العربي.. وللحديث صلة.