في سياق الجدل الحاد الذي خلفته حادثة «شارلي إبدو» في فرنسا مطلع الشهر الماضي، أصدر الفيلسوف الفرنسي «بيير ماننت» كتاباً مثيراً بعنوان «وضعية فرنسا»، فجَّر فور صدوره نقاشاً عارماً في الساحة الفكرية الفرنسية. ومع أن الكتاب يتناول إجمالا أزمة النموذج الفرنسي الذي قام على ركني الجمهورية والعلمانية، فإن أهميته تكن في تعرضه لمسألة الإسلام وتأثير المكون الإسلامي في النسيج الوطني الفرنسي على هذا النموذج. ولابد من التنبيه هنا إلى أن الفيلسوف الرصين يختلف نوعياً عن اتجاه مهيمن غالباً في الوسط الثقافي الفرنسي برافديه اليميني القومي واليساري الراديكالي، يذهب إلى تحميل الإسلام الوافد مسؤولية المأزق المجتمعي الفرنسي المتفاقم، باعتباره ديناً عصياً على الاستيعاب في منظور علماني جمهوري، ومن هنا ازدواجية ولاء المسلم الفرنسي لوطنه وأمته التي تفرض عليه خصوصيات مميزة في الهوية والانتماء. ما يبينه ماننت هو أن الموضوع الإسلامي لا يمكن أن ينفصل عن أزمة مجتمعية نوعية تتعلق بظاهرتين متلازمتين هما: انحسار مفهوم المجال المشترك، أي الهوية الجماعية المتقاسمة المتجاوزة للذاتيات الفردية الخصوصية، والانتقال من علمانية تقوم على حياد الدولة إزاء الانتماءات الدينية إلى علمانية تنزع نحو إقصاء الدين من الشأن الاجتماعي برفض أي بروز له في الدائرة العمومية. ما يذكر به «ماننت» هو ما ميز اللائكية العلمانية الفرنسية في السياق الغربي، أي انبثاقها عن الجمهورية التي تعني استبدال الرابطة العضوية العرقية أو العقدية بهوية جماعية متقاسمة هي الأمة بمفهومها التضامني القوي وتعبيراتها القانونية والسياسية كما تتجسد في الرابطة الجماعية المشتركة. ليست العلمانية إذن نزعة عقدية أو مشروعاً مجتمعياً، بل هي آلية قانونية سياسية تنيط بالمؤسسة العمومية الاختصاص بالقرار السيادي الضابط للشأن الجماعي، دون أن تحرم الدين من حقه الطبيعي في الظهور والحضور الذي هو من مقتضيات الليبرالية الناظمة للحقل الاجتماعي، وهكذا يذهب «ماننت» إلى أن العلمانية لا تعني إغلاق التجربة الدينية في الوعي الفردي الضيق، إذ للظاهرة الدينية طابعها الاجتماعي الذي لابد أن يتجلى في صيغ ملموسة، ولذا فإن العلمانية الجديدة تتجاوز قواعد ومبادئ النظام اللائكي التي لا تقف موقفاً عدائياً من الدين ولا تريد تصفيته من المجتمع بل تكتفي بالحيلولة دون هيمنته على المؤسسات العمومية. فعندما ينظر آلى الجاليات المسلمة كتهديد للمنظومة العلمانية لمجرد ممارستها الطقوسية أو لطبيعة تميزها في الزِّي والتقاليد الغذائية، فالأمر لا يعني في الواقع انتهاكاً للقوانين الجمهورية الفاصلة بين الحقلين الديني والسياسي، وإن كان الحضور الإسلامي اللافت يعكس قلقاً اجتماعياً متزايداً مرده هشاشة وتآكل المجال العمومي نفسه الذي لم يعد يولّد روابط اندماجية صلبة نتيجة للأزمة العميقة التي تطال فكرة الأمة في مفهومها وفاعليتها بعد أن أصبحت الهوية الذاتية الفردية هي المرجعية الوحيدة المقبولة في تحديد المعايير المجتمعية وضبط الحقل الجماعي. وإذا كان ماننت يرفض الانسياق وراء نزعة الخوف من الإسلام التي تغذي الاتجاهات العنصرية المتصاعدة في الساحة الفرنسية، فإنه يتبنى التمييز السائد في بعض دوائر الاستشراق الجديد بين «التقليد اليهودي المسيحي» القائم على فكرة «التحالف» بين الإله والإنسان (سواء كان شعباً مصطفى أو بشراً مجسداً للألوهية) والتقليد الإسلامي القائم على فكرة الطاعة لإله متعال منفصل عن الإنسان (مما يفسر بالنسبة له الطابع القانوني والسياسي للإسلام)، وهو تصور متهافت تعود خلفياته البعيدة الى الفيلسوف الألماني «هيغل». ومن هنا يخلص ماننت إلى ضرورة إبعاد النقاشات اللاهوتية والعقدية عن موضوع الاندماج الاجتماعي للجاليات المسلمة، مع إلزام مسلمي فرنسا بالشروط الدنيا للنظام الاجتماعي المعلمن المانع لانتهاك حيادية الدولة إزاء الممارسات والانتماءات الدينية، دون منع أتباع أي دين من التمسك بخصوصياتهم الجماعية. ما نخلص إليه من أطروحة ماننت هو أن «المشكل الإسلامي» أصبح بالفعل أحد مكونات الأجندة الرئيسية في الأزمة المجتمعية الحادة التي تعرفها المجتمعات الأوربية راهنا، وقد ضاعف من هذه الحدة في الآونة الأخيرة مشكل اللاجئين القادمين من البلدان المسلمة وموضوع الإرهاب والتطرف الديني والأصوليات المتشددة. ولا شك أن من أهم مقتضيات إدارة هذا الإشكال المجتمعي العصي العمل الجاد على بلورة الإسلام الأوروبي الخاص، أي نمط التدين الملائم للتقاليد والنظم الأوربية بدلا من تصدير الصيغ الثقافية لأنماط التدين الخارجية التي تحمل خصوصيات وبصمات مجتمعات أخرى فيما هو أبعد من ثوابت الدين وقيمه العليا الناظمة.