أصبحت مراكز البحوث والجامعات وبنوك التفكير العربية مطالبة الآن، أكثر من أي وقت مضى، بأن تعكف على تشخيص مستقبل العالم العربي في ظل الظروف الاستثنائية التي يكابدها، على أن يشارك في هذه العملية باحثون وخبراء من تخصصات عدة، يرسمون أولاً خريطة معرفية كاملة عن العرب الآن، ثم ينطلقون منها إلى تحديد كل ما هو آتٍ. ويحضرني في هذا المقام ما جرى في مطلع ثمانينيات القرن العشرين حين قامت جامعة الأمم المتحدة بشجيع باحثين وطنيين في أقاليم مختلفة من العالم الثالث على استشراف مستقبل بلادهم، كان في مطلعها العالم العربي، حيث اشتغل باحثون في مشروع يحمل اسم «المستقبلات العربية البديلة»، وقد ركز على الديناميات الاجتماعية والاقتصادية والحضارية التي يحتمل أن تؤدي إلى خلق مسارات لتنمية بديلة، وقد صدرت حصيلة هذا الجهد في كتاب تحت عنوان «صور المستقبل العربي»، شارك في تأليفه عدد من الباحثين والخبراء الاقتصاديين، وهم إبراهيم سعد الدين، وإسماعيل صبري عبد الله، وعلي نصار، ومحمود الفضيل، وساعدهم خبراء آخرون. وانطلق القائمون على هذا المشروع من اقتناع بأن التفكير في المستقبل العربي بات ضرورة، إذ قالوا في مستهل عملهم اللافت: «في ضوء كل صعوبات التقدير والاختيار والتأثير في حركة الأوضاع المستقبلية، تبرز أهمية التفكير والتأمل العلمي الشامل من خلال نشاط ذهني متسع ومتصل.. فبقدر عظم التحديات التي نجابهها، وبقدر اتساع دائرة الطموحات التي تؤرقنا، بقدر ما تكون هناك حاجة ماسة وملحة للدرس والتأمل والبحث على أسس رحبة، وبحيث يتم استبانة العوامل والمتغيرات والقوى المؤثرة والتيارات الفاعلة في حركة المستقبل العربي، وذلك حتى يمكن استشراف أبعاد صور المستقبل العربي كافة بما تحوي من مشاكل وتحديات وبما تنطوي عليه من طاقات وإمكانات، فالأمور قد تطيب أو تخبث بالنسبة للمشاهد الاحتمالية للمستقبل العربي بقدر ما تنجح من الآن، ودون إبطاء، في إعداد العدة للمستقبل عن طريق حسن الدرس والتقدير، وحسن التدبير معاً، وذلك حتى لا تجري الرياح بما لا تشتهي السفن». بدأ المشروع بوضع «المستقبل العربي» في إطار مقارن مع النماذج العالمية المتداولة، والتي تم اختبارها في مناطق وأقاليم ودول أخرى في العالم، ليحدد ملامح المستقبل العربي في بعض الوثائق الخاصة بالاستراتيجيات العربية في مجال الأمن الغذائي، والتنمية الصناعية الرامية إلى الوفاء بالحاجات الأساسية للمواطنين العرب، والأنماط البديلة للتنمية وأساليب الحياة، وتوفير الطاقة، وتطوير التعليم والتربية، وتطرق المشروع إلى نقاط تفصيلية أكثر شمولاً من قبيل: العلاقة بين البنى الاجتماعية السياسية والتنمية، وعملية صنع القرار، والديمقراطية والاتصال الجماهيري والمشاركة الشعبية، والاتجاهات الاجتماعية والسياسية والثقافية، وآليات التبعية، والعلاقة مع النظام العالمي المتغير، والآثار غير المدروسة للثروة النفطية، والموارد البشرية وسبل تنميتها، وموارد واستخدامات العلم والتكنولوجيا، والفنون والآداب، والإطار المؤسسي للتكامل العربي، والتوحد العربي وقضايا الأقليات. وانتهى القائمون على المشروع بآمال عريضة علقوها على إمكانية أن تؤدي مثل هذه الدراسات العلمية إلى تحسين شروط الحياة في العالم العربي من الخليج إلى المحيط، إذ قالوا في ختام ما قدموه: «والأمل كل الأمل أن تساعد هذه الدراسات والحوارات جميعاً في إلقاء مزيد من الضوء على العوامل الحاكمة لصناعة المستقبل العربي، وأن تساعد بالتالي على تحديد ماهية الافتراضات التي يمكن الاستناد إليها، وماهية طبيعة القيود التي لابد من أخذها في الحسبان عند محاولة رسم الصورة التجميعية للتطورات العربية المحتملة، سواء اتخذت هذه المحاولات شكلاً كمياً أم تأملياً». ومثل هذا المشروع في حاجة إلى التجدد، بإمكانيات أكبر، وفي مجالات أكثر، ولمدى زمني أبعد، وتوضع النتائج كلها في وجه الناس ليعرفوا إلى أين نتجه.