كانت فكرة إبداعية دعوة كُتاب جريدة «الاتحاد» إلى منتدى سنوي في العاصمة أبوظبي، لتجديد اللقاء بين أدمغة فذة منتقاة بعناية، من كتاب ومفكرين وأساتذة جامعات وقادة رأي. وحين يتعلق الأمر بهذا النوع من الاجتماعات الفكرية تقفز إلى الذهن فكرة مستودعات التفكير (Think - Tank - Center) التي طورها العلماء الأميركيون من أجل هندسة العالم، أو ما يقوم به شباب وادي السيليكون الذين يطمحون لأن يضعوا أيديهم على مصير العالم المستقبلي، عالم «الديجتال». ومنتدى الاتحاد اجتماع يتم في أبوظبي كل عام بهدوء وبدون ضجة إعلامية، باستثناء إعلانه وتغطيته الصحفية في الجريدة. ويضم هذا اللقاء مفكرين وسياسيين وأساتذة جامعات وباحثين متخصصين وأكاديميين يغوصون في المصادر وأوراق البحث، وكلهم من وجوه الفكر والرأي، ويأتون من كل زوايا العالم العربي. والسؤال الذي يخطر في الذهن: لماذا هذا اللقاء وما هو المهم فيه؟ بل ما هي النتيجة المحصلة منه مع عظم التكاليف والنفقات، فالقوم يجمعون في أفخم الفنادق، ويحملون من كل أصقاع الأرض بدرجات طيران رجال الأعمال. في هذا الصدد تحضرني فكرتان، الأولى من بواكير عصر النهضة حيث بدأ عصر التنوير من أوروبا باجتماع العلماء في كنف أمراء مشجعين للفكر ورواده، والثانية من علم الفيزياء واختراع السلاح الذري في واحد من أضخم مشروعات العلم والسياسة معاً. في كتاب «عندما تغير العالم» الذي كتبه «جيمس بيرك»، يذكر أن بواكير النهضة بدأت من اجتماعات بسيطة، منها ما كان يقوم به الكاهن «ميرسين» في ضاحية باريس، حيث كان يعقد لقاءين كل أسبوع يحضرهما المفكرون من كل أوروبا، وممن حضر تلك اللقاءات الفيلسوف «رينيه ديكارت» الذي قيل إنه قد توصل إلى منهج الهندسة التحليلية، وهو يراقب في المجلس طنين ذبابة يريد معرفة إحداثيات سيرها وإزعاجها! وبالطبع فالكثير من الظواهر تحدث من ملاحظات عبقرية لأمور يمر عليها الكثير من الناس وهم عنها معرضون، وفي الذهن هنا نموذج تفاحة نيوتن وقانون الجاذبية، وقانون ضغط البخار لدفع القاطرات من غليان إبريق الشاي عند «دينيس بابان»، والألماني مخترع جهاز تكسير حصى الكلى من مراقبة عمل الطائرات حين اختراق قانون «الماخ» في سرعة الصوت وتكسر زجاج النوافذ. ولكن كلها أمور بسيطة تحتاج لعقل إبداعي للوصول إلى سرها الدفين. وكذلك أتذكر كيف جمعت أميركا في «أواك ريدج» و«ألامو جوردو» خيرة علماء الفيزياء للوصول إلى سر انفجار الذرة، وتحرير أعظم طاقة قد يحلم بها إنس أو جان. وحين اجتمعت تلك الأدمغة التي وصفت رحلتها بأنها أروع من رحلة كولومبس إلى المجهول، استطاعت وبتضافر وثيق أن تصل إلى تحرير القوة العاتية من قلب ذرة لا ترى! وهذا التوظيف للفكر والعلم هو سر قوة الإنسان عبر الزمان، وبكلمة أدق هو ما قد يصنع الفارق بين مجتمع وآخر. ومع ذلك هناك مشكلة عويصة في جمع الأدمغة من مختلف الأصقاع والأنحاء. وهذه مشكلة قد تعوق في أحيان كثيرة اجتماع العلماء والمفكرين، ولكن اجتماعهم هائل ومفيد إن تم. ومن هنا تكون الحكمة بالغة، والنتيجة أكثر من رائعة متى أمكن تدشين اللقاء، والتعود على الآراء المختلفة، للخروج بأفضل الأفكار وأعظمها فائدة. ومنتدى أبوظبي السنوي رائع المبدأ، فإذا تم تدفق الأفكار في لقاءات فكرية وعلمية، وسخرت لها «الإنفوميديا» من كل صنف، من أجل تبصير وتنوير جماهير عربية تعيش في بعض أقطارها غير المستقرة أيام الفتن، لحقن الدماء وترشيد وعي الجماهير، أقول تكون الفائدة بركة عظيمة، وهذا هو المطلوب من قادة الرأي ورجال الفكر وصحيفة مستنيرة كهذه الجريدة الغراء.