منذ أمد بعيد وروسيا تطمح في أن يكون لها دور مؤثر في المنطقة العربية، مثلما تطمح في أن يكون لها موطئ قدم في المياه الدافئة، وقد عملت السياسة الخارجية الروسية في المنطقة بنفس الطريقة التي كانت تعمل بها أيام الاتحاد السوفييتي السابق. بالنسبة لسوريا هي المنفذ الوحيد المتبقي للتواجد الروسي في الدول العربية من خلال قاعدتها البحرية في طرطوس. لذلك فهي عندما تيقنت بأن الإدارة الأميركية الحالية لن تمارس دوراً مباشراً أو مؤثراً في الشأن السوري، أقدمت وبجرأة لم يسبق لها مثيل في العالم العربي على التدخل العسكري المباشر جواً وبحراً وبراً بحجة أنها ترغب في الإسهام في محاربة تنظيم «داعش» الإرهابي، وهي في الواقع أقدمت على ما أقدمت عليه لكي تقف إلى جانب نظام بشار الأسد وتنقذه من الهزيمة التي كانت تلوح في الأفق قبل تدخلها. لقد أدى التدخل الروسي إلى خلط الأوراق وقلب الأوضاع رأساً على عقب وسط ذهول كامل من ساسة دول الغرب جميعاً وبلا استثناء. حقيقة أن التدخل الروسي في سوريا بهذه القوة وهذا الحجم لم يأتِ من فراغ، فروسيا لديها مصالح استراتيجية وعسكرية واقتصادية ليست بخافية على أي مطلع على سير العلاقات الروسية - السورية منذ ما قبل نظام حافظ الأسد، واستمرت في أيامه بطريقة أقوى، وهي قائمة في أيام ابنه وخليفته الذي لا يزال يحظى بدعم غير محدود من روسيا. لذلك فإن التدخل الروسي الحالي في سوريا هو تذكير للولايات المتحدة وللاتحاد الأوروبي ولدول المنطقة التي تعارض النظام الحاكم في سوريا وربما للعالم أجمع بالدور الروسي الذي تم تجاهله كثيراً، كما يرى الروس منذ انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، وبأن هذا الدور يمكن أن يصبح أكثر تجذراً وقوة في المستقبل على أساس من روابط روسيا التقليدية بسوريا، وعلى الجوانب الأخرى من علاقات الطرفين من حيث كون روسيا قوة عالمية كبرى أو حتى عظمى لها مصالحها في المنطقة بما في ذلك الجانب العسكري. إن اعتماد سوريا الكامل على الأسلحة الروسية لتسليح قواتها العسكرية النظامية والأمنية الأخرى يعتبر اهتماماً مهيمناً على تفكير كل من روسيا وسوريا. ودون شك أن تبرير روسيا لإقدامها على التدخل العسكري واسع النطاق في سوريا بأنه لمحاربة تنظيم «داعش» بدا منطقياً للوهلة الأولى، لكن الممارسات الفعلية من خلال العمليات العسكرية التي بدأت بقيام الطيران الروسي بقصف جميع مواقع ومعسكرات وتجمعات الجهات المعارضة لنظام بشار الأسد من المقاومة السورية تثير شكوك كافة الأطراف في المنطقة وخارجها، خاصة جيران سوريا المباشرين بما في ذلك إسرائيل. وبشكل خاص، فإن كل من تركيا والأردن نظرت إلى الأمر بالشك، فالدولتان تستقبلان ملايين اللاجئين السوريين، وتأوي تركيا العديد من منظمات المقاومة وقيادات المقاومة السورية، وتقف وحدات من جيشها متأهبة بالقرب من الحدود السورية، إن لم تكن ضالعة في مساندة العمليات الحربية التي تقوم بها بعض فئات المعارضة، خاصة الجيش الحر. لذلك، فإن التدخل الروسي العسكري المباشر في سوريا يصعد من الموقف ويزيد القضية السورية تعقيداً على ما هي عليه من تعقيدات سابقة، ويلهب المنطقة منبئاً بالمزيد من الكوارث السياسية والعسكرية، ولن يحل المسألة في شيء سوى تثبيت قواعد النظام الحاكم. وأخذاً في الاعتبار أن إيران تشارك في العملية العسكرية إلى جانب روسيا، وأن المسألة تأخذ بعداً وتفسيراً موجعاً لكافة الدول العربية، وهو أن روسيا تعمل على تعضيد توسع النفوذ والهيمنة الإيرانية في سوريا وتقدمها لإيران على طبق من ذهب كما فعلت الولايات المتحدة بالعراق، ويدعم هذا التفسير أن النظام الحاكم في العراق حالياً ممثلاً في الحشد الشعبي الذي هو عبارة عن ميليشيات طائفية وحزب الله اللبناني ضالعون أيضاً في القتال إلى جانب الحرس الثوري الإيراني المتواجد في سوريا. ورغم أن الروس مصرون على أنه ليس لهم نوايا توسعية في المنطقة، وبأن العملية التي يقومون بها في سوريا ذات أهداف محددة وواضحة وستنتهي فور تحقيق تلك الأهداف، إلا أنه في عالم السياسة لا يوجد مجال لأخذ مثل تلك التطمينات على محمل الجد.