أثار التدخل العسكري الروسي في سوريا ردود فعل واسعة في الساحة العربية، وقد ذهبت التحليلات والمواقف في اتجاهين متمايزين، ذهب أحدهما إلى مقاربة الحدث من منظور برادايم «الحرب الباردة»، أي عودة الصراع القطبي السابق من خلفيات جديدة ورثت فيها روسيا القومية الاتحاد السوفييتي الشيوعي، وذهب ثانيهما إلى معالجة الموضوع من منظور «الحرب الدينية» بتنزيل الموقف الروسي في سياق صراع موهوم بين العالم السني وحلف الأقليات الطائفية الدينية في المشرق العربي من خلال محور روسي إيراني قوي ومتماسك. لا تستقيم القراءتان في فهم تعقيدات الوضع الإقليمي ونمط المقاربة الروسية في التعامل معه، باعتبار أن النظام الدولي المتولد عن الحرب الباردة انتهى عملياً بتركيبته القطبية ومنظوره الأيديولوجي وتوازناته الاستراتيجية، وليس من الصحيح أن روسيا تطمح لاستعادة موقع محور الاستقطاب في العلاقات الدولية الذي لا تتمتع بمؤهلاته وميزاته المطلوبة، وإن كانت تحرص على موقف فاعل في النظام الدولي الراهن. كما أن المقاربة الدينية لا تفيد كثيراً في إدراك مرامي وخلفيات السياسة الشرق أوسطية لروسيا التي لها عمقها الديموغرافي والحضاري الإسلامي (السني) القوي، ولا تصدر في مواقفها الإقليمية من نوازع دينية، بل إن علاقات روسيا بإيران تحكمها ثوابت استراتيجية من العصر القيصري ولم تتأثر جذرياً لا في الحرب الباردة ولا بتغير واجهة الحكم في إيران بعد ثورة الخميني. كما أن حماية روسيا لنظام بشار الأسد لا تصدر عن خلفيات دينية حتى لو كان أسقف موسكو أطلق عبارة «الحرب المقدسة» على التدخل العسكري في سوريا، وإنما تفسر هذه الحماية بمحددات الرؤية الاستراتيجية الروسية للمنطقة التي تصدر عن مبادئ ثلاثة رئيسة: أولا: العودة القوية للساحة الدولية بعد عقدين من التهميش والإقصاء من منطلقات النزعة القومية الروسية التقليدية التي ترجع لتركة التحديث الروسي في العصر القيصري، خصوصاً في عهد «بطرس الأكبر» باني النهضة الروسية في القرن الثامن عشر الذي أخرج البلاد من الحقبة المنغولية وربطها بمحيطها الأوروبي. وفق هذا التصور نلمس في الخطاب السياسي لبوتين التركيز على الهوية القومية الروسية في مكوناتها الثلاث المعروفة: اللغة الروسية والكنيسة الأرثوذكسية والدولة القوية المستندة على المؤسسة العسكرية، بما يؤهل روسيا لتبوؤ مكانة محورية في الفضاء الأوروآسيوي الذي هو عمق هويتها الإمبراطورية الثابتة (من بحر البلطيق شمالاً إلى البحر الأسود جنوباً) في مواجهة محاولات تحجيمها ومحاصرتها من حدودها الأوروبية. ثانياً: استعادة موقع الفاعلية في المؤسسات الدولية بعد فشل خيار «الشراكة الدولية المتعددة» الذي طرح بعد الحرب الباردة، واعتبرت روسيا أنه أفضى إلى إفراغ مركزها في مجلس الأمن من مضمونه في الوقت الذي أطلق اليد للولايات المتحدة والقوى الأوروبية في الساحة الدولية بما فيها الحزام الاستراتيجي لروسيا في البلقان وأوروبا الشرقية. من هنا ندرك أن التدخل العسكري في سوريا يندرج في منطق الاستفادة من إخفاقات وتردد الإدارة الأميركية في الظهور طرفاً قوياً يمكن الاعتماد عليه وشريكاً لا غنى عنه في إدارة الأزمات الدولية، وليس المقصود منه الدخول في صراع استراتيجي غير متكافئ مع الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين. ثالثاً: رغم العلاقة التقليدية بين روسيا والنظام البعثي السوري، فمن غير الصحيح أن روسيا تراهن على بقاء حكم بشار الأسد أو تريد إنقاذه على المدى البعيد، إذ تدرك عقم المحاولة، وكل غرضها هو الحفاظ على ورقة رابحة في استراتيجية التسوية السياسية المرتقبة للصراع من خلال الحضور الميداني على الأرض مع الإبقاء على قنوات مفتوحة مع اللاعبين المحليين والإقليميين حتى لو كانت مواقفهم ما تزال متباعدة مع الموقف الروسي الذي يعتبر بشار الأسد من عناصر الحل المطروح. وكما ظهر من اللقاءات المتعددة بين الحكومة الروسية والأطراف العربية، فإن طموح روسيا يتجاوز دورها التقليدي في المنطقة (ضمن مراكز نفوذها المحدودة) بل يتمثل في سد الفراغ الاستراتيجي الذي خلفته السياسات الأميركية بأخطائها المتكررة في إدارة الملفات الشرق أوسطية. بما يقتضي توطيد العلاقة مع القوى الإقليمية العربية في مرحلة يتسارع فيها التقارب الأميركي الإيراني. وحاصل الأمر، أن الاعتراض المبرر على التدخل العسكري الروسي المحفوف بالمخاطر يجب أن لا يغطي على الإمكانات الاستراتيجية التي يمكن للعرب استفادتها من الورقة الروسية.