عندما تسافر إلى مدينة يحرم البصق فيها ويستهجن من يسأل عن أصل المرء وفصله وترى التعايش في بريق أعين الناس ماذا يخطر على بالك منذ أول وهلة؟ إننا نتحدث عن مجتمع إنساني بالدرجة الأولى بعيد عن تجاذبات الجنس والعرق والطائفة والدين أياً كان اسمه ورسمه، فهذه التفاصيل الشخصية لا تشكل في هذا المجتمع إلا إطار التنوع البشري الذي يعيش فيه الجميع تحت مظلة واحدة وموحدة تسمى «المواطنة» ثم المواطنة ولا شيء بعدها ولا قبلها. فالنظافة اللامعة كما هي على الأوجه وفي الأروقة والطرقات وعلى زجاجات المباني والمسطحات الخضراء وفي الأزقة الشعبية حيث الناس تلاعب أطفالها مع الكلاب والقطط التي ألفت في الإنسان إنسانيته وفي التعامل البيئي رقيه وأسس حضارته. حديثنا حتى لا نتوه عن مدينة «تورنتو» الكندية التي نرى من خلالها شلالات الدنيا قد اجتمعت فيها بصفاء لونها ونقاء مائها وقد اخترع لها السير هنري طريقة هيدروليكية كهربائية للتحكم في جريان مياهها التي لا تنضب مع مرور القرون السابقة واللاحقة عليها، فالماء هنا أصل ونبع الحياة التي نراها أحيت «تورنتو» وأقظتها من لحظات الكسل إلى ساعات البناء السامي للمعاني قبل المباني. تقطع الشوارع الطرقات، تنظر في أعين الناس وحركاتهم النشطة قاطعين الزمن على أرجلهم عبر المسافات الطويلة في الصباح الباكر من قبل أن يضع كل كندي لبنة الحضارة لدولته أو مجتمعه. ما هو أفضل شيء في هذا البلد؟ أتعلمون ماذا؟ قد تظنونه الأبراج الشاهقة والمرتفعات الخضراء ونضارة الناس في الوجوه والثروات الضخمة التي لم تتأثر بالأزمة العالمية التي أصابت العالم في معظمه في 2008 ولم تفت في عضدها شيئاً قليلاً. كندا اليوم تتربع على عرش الدول التي تعلن عن حبها للتعايش مع الآخرين من الأقليات التي لا يخلو منها أي مجتمع في هذا الكون الشاسع، فهي إلى اليوم الدولة الأولى في العالم من ناحية التعايش السلمي والأمن الاجتماعي والانتماء إلى الوطن قبل كل شيء. وهذا العنصر قد أضيف حالياً إلى تصنيفات الإبداع العالمي عندما يأتي ذكر التعايش السلمي بين أفراد الجنس البشري قاطبة، في تصنيف «الإبداع العالمي لعام 2015» الذي وضعت أسسه وقواعده في جامعة «تورنتو» الكندية، فهي في الحقيقة مدينة داخل مدينة وليست جامعة فقط، يجمع هذا ثلاثة تصنيفات يتعلق بالمواهب التطويرية الاقتصادية، وهي: مستوى التعليم الجامعي للسكان والمواهب في مجال الإبداع التكنولوجي، بما في ذلك الاختراعات المسجلة والاستثمار في البحث والتطوير، والتسامح وقبول الأقليات العرقية والدينية. والسر في كل ذلك يكمن في حصاد الجامعات العريقة التي تخرج سنوياً، هذه النوعية الخاصة من الطلبة الذين يستطيعون السيطرة على أحاسيس العنصرية والكراهية في نفوسهم وقلوبهم ليخرجوا إلى العالم بصورة مغايرة عما نراه ونسمعه لدينا في الشرق الأوسط الذي أصبح مليئاً بموجات من التطرف والكراهية وحب القتل والإسراف فيه بشعارات تزيل وتعدم في الإنسانية جوهرها وهو التعايش الذي جعله الإسلام الأصل ألا وهو «الدين المعاملة» فمن لا يحسنها لا يعرف من الدين إلا شكله المزوّر. فعلى سبيل المثال، جامعة «يورك» وحدها خرجت خلال الخمسين عاماً من تأسيسها 350 ألف طالب وطالبة ليس للداخل الكندي فقط، بل للأبعد الإنساني، أي إلى العالم أجمع، وقد بلغ عدد طلابها في عام 2015 قرابة 50 ألف طالب وطالبة، وبهذا تصبح هذه الجامعة الحديثة النشأة نسبياً أرقى من كثير من الجامعات التي مضى عليها أكثر من ثمانية قرون كبعض التي أسست في إيطاليا، فقد فازت عليها في هذا السباق بسبب من التعايش الحقيقي والسلم الاجتماعي بين مكوناتها، فجدران هذه المنارات العلمية تنطق بالإنسانية أولاً قبل الإنجليزية والفرنسية. وفي آخر حفل تخريج لهذه الجامعة تخرج الأم من ابنها وقد حازت إحدى الأمهات خمس شهادات جامعية في مختلف التخصصات بدل الشهادة الواحدة، فالجامعات هي التي تبقى حضارة كندا حية وبعض المساجد عندنا تقتل الحضارات تلو الأخرى ولا تبالي.