مما يروى عن نوري السعيد، آخر رئيس للوزراء في عراق الملكية، أن نائباً هاجمه تحت قبّة البرلمان قائلاً: «انظروا لأي حال أوصلتم هذا البلد! بلد هارون الرشيد والمأمون وتلك الحضارة الزاهية، انظروا كيف هبطتم بنا إلى هذه الأحوال التي نحن عليها اليوم!»، فوقف نوري السعيد وأجابه قائلاً: «سيدي المحترم! نحن لم نتسلّم العراق من يد هارون الرشيد لتحاسبنا. تسلمناه من الوالي العثماني». ورغم أن جواب نوري السعيد بديهي، لكن الأمور البديهية تصبح أحياناً مثل التنفس، بعضهم ينسى أنه في حال دائمة من الشهيق والزفير منذ دخوله الدنيا إلى لحظة مغادرته، وينسى أبسط البديهيات ويسأل ذلك السؤال المغرق في سذاجته ويكون الجواب الذي يعرفه مقدماً معياراً للحكم على الأمور، فيذهب إلى الحالة «ي» ويقيس عليها الحالة «أ»، ولا يلتفت إلى أن ثمة ستة وعشرين حرفاً تفصل بينهما، وكأنما الألف سنة ما بين عصر هارون الرشيد وعصر نوري السعيد، وما جرى خلالها، لا حساب أو أهمية له. كما يروى عن أحد رؤساء الوزراء في العهد الشاهنشاهي أنه في أيامه الأخيرة أخرج من جيبه قلماً من ماركة «‏BIC»?، ?وقال ?إنه ?تسلّم ?الحكومة ?قبل ?سنوات ?وكان ?سعر ?هذا ?القلم ?كذا ?ريال، ?وها هو ?يترك ?الحكومة ?وسعر ?القلم ?لم ?يتغير، ?في ?إشارة ?إلى ?التضخّم ?الاقتصادي ?والذي ?يعد ?سوءاً ?في ?الإدارة ?لو ?حدث ?بمعدلات ?عالية ?وأصبح ?مفرطاً، ?علماً ?بأن ?إيران ?تحتل ?المرتبة ?180 ?في ?مؤشر ?التضخّم ?من ?أصل ?187 ?دولة ?في ?العالم ?حسب ?أحدث ?تقرير ?للبنك ?الدولي. وفي تقييم الزعماء، والعهود، والأنظمة، لا يمكن تجاهل بديهية «التسلم والتسليم»؛ كيف تسلّم البلد من سلفه؟ وكيف سلّم البلد لخلفه؟ وكيف كان حال الشعب قبله مباشرة؟ وكيف صار حالهم‏? ?بعده ?مباشرة؟ ?ولعلّ ?هذا ?أحد ?العوامل ?الرئيسية ?للرضا ?الشعبي ?على ?الأسر ?الحاكمة ?في ?دول ?الخليج ?العربي ?إجمالاً، ?وهذا ?أيضاً ?أحد ?أسباب ?النقمة ?على ?بعض ?الأنظمة ?العربية ?التي ?تسلّمت ?البلاد ?من ?يد ?الأجنبي، ?وبدلاً ?من ?تحسين ?حال ?الناس، ?أو ?على ?الأقل ?المحافظة ?على ?تركة ?المستعمر، ?خربتها ?وجلست ?على ?تلتها ?كما ?يقولون، ?حتى ?جعلت ?الناس ?تهرم ?في ?نهاية ?المطاف ?ولا ?تجد ?غير ?الشارع ?مكاناً ?تندب ?فيه ?حظها ?بشكل ?جماعي. كيف كان العوز والحرمان والمرض والتعب والشمس والرمال في المناطق التي أطلق عليها فيما بعد الإمارات العربية المتحدة، وكيف صارت هذه التنمية والرفاهية والراحة والبحبوحة التي نعيشها؟ وهكذا بالنسبة لبقية دول الخليج العربية. صحيح أن النفط ساهم بشكل قوي في تلك النقلة الهائلة على المستويات كافة، لكن النفط لا فائدة منه بدون حكم رشيد وإدارة مؤهلة ونية صادقة ورغبة في الخير. والأمثلة على أن النفط وحده لا يفعل شيئاً كثيرة، العراق وإيران وليبيا كلها دول نفطية، والكثير من الدول العربية تملك ثروات هائلة، لكنها دول فاشلة أو في طريقها للفشل. التقييم الصحيح يؤدي إلى إصدار حكم صحيح يتفرع بدوره إلى رضا قائم على معطيات حقيقية، وليس وهماً أو خيالاً أو خدعة كبيرة يعيش فيها الناس، وإلى سخط قائم على أسباب حقيقية، وليس نتيجة مؤامرة أو بطر أو كفر بالنعمة.