قد يتساءل المفكر الوطني: ما الذي حدث في الوطن العربي بعد الثورة الشعبية في عام 2011؟ ما الذي أوقعه في التفتيت والتجزئة والتضارب والتقاتل فتحول التهديد من عدو خارجي، إسرائيل، إلى عدو داخلي، الإرهاب، وبدلاً من محاربة العدو لتحرير فلسطين حارب بعضنا بعضاً باسم العِرق أو الطائفة أو المذهب على ما يبدو في الظاهر. صحيح أنه لا يمكن إنكار وجود هويات متعددة ومتداخلة في الشخصية العربية. تتآلف فيما بينها ولا تتصارع. وإن تصارعت فلنقصٍ في فهمها والقدرة على توحيدها. إن في الوعي الإنساني مستويات عدة، منها الخاص والعام، المحسوس والمجرد، المباشر وغير المباشر. وهناك علاقات متعددة، الأنا والآخر، أنا موجود إذن الآخر موجود. وهذا طبيعي. فالوجود الإنساني وجود علائقي، في علاقة بالآخر وبالعالم وبالزمان والتاريخ. ولا ينفي أحد المستويات الأخرى. فالكردي كردي أولًا وعربي ثانياً، وليس عربياً أولاً وكردياً ثانياً كما يبغي أنصار العروبة الشاملة. والأمازيغي أمازيغي أولاً وعربي ثانياً وليس عربياً أولاً وأمازيغياً ثانياً كما يبغي أنصار الأمازيغية المتطرفة كخطوة شعورية أو لاشعورية نحو الانفصال. والنوبي نوبي أولاً ومصري ثانياً وليس مصرياً أولاً ونوبياً ثانياً كما يبغي النوبيون المتطرفون، اعتزازاً بالمكان والعرق واللغة والثقافة التي قد تبرر وجود حركة انفصالية تامة أو جزئية. والتركماني تركماني، والأرمني أرمني، والخطورة في ذلك هي تحول هذا الخاص إلى نزعة متطرفة انفصالية، وبالتالي قيام الدول أو الأمم على نظام عنصري يقوم على العرق. ثم تتفاضل هذه الأعراق فيما بينها، الأبيض ضد الأسود أو الأصفر مثل النازية والفاشية وكل النزعات العنصرية التي تقوم على تمييز اللون الأبيض على غيره في أوروبا، والتي ما زالت سائدة، لدى بعض متطرفي اليمين في أميركا حتى الآن، وهي تثير حركة عنصرية مضادة مثل «الفهود السوداء» وشعارات عكسية مثل «الأسود جميل»، وحركات حقوق الإنسان واغتيال زعمائها مثل مارتن لوثر كنج. ومن الخطأ أيضاً أن تقوم النزعة الخاصة على أساس ديني، طائفي مذهبي، سني شيعي. ثم قد ينقسم السني إلى أحد المذاهب الأربعة مثل المالكية في المغرب العربي والشافعية في اليمن. ثم تنقسم الطوائف الكبرى إلى طوائف أصغر. فالشيعي زيدي أو حوثي ونصيري وعلوي. وينقلون الخلافات التاريخية التي ولّت وانقضى عهدها إلى العصر الحاضر. وكلهم عرب. والهويات العرقية والطائفية في القاع. والهوية العربية هي التي تجمع بينها جميعاً. هوية في الداخل، وهوية في الخارج. هوية تفرِّق، وهوية تجمِّع. هوية موروثة من الماضي، وهوية من الحاضر. ولا تضارب بين الاثنتين. إن العربي له ثلاث هويات متداخلة، الأولى هوية المكان، مكان الميلاد، بغداد أم دمشق أم القاهرة أم صنعاء.. وكل منا له مكان للميلاد. ولا نولد في كل مكان. هذا عراقي، وهذا سوري، وهذا مصري، وهذا يمني..الخ. والهوية الثانية هوية اللسان، هوية اللغة، فكلنا يتكلم العربية، فليست العروبة بأب أو أم وإنما العروبة هي اللسان. فكل من تكلم العربية فهو عربي. وهنا جاء تعريب الشعوب، تعريب الأكراد والأرمن والتركمان والترك والأمازيغ وكل شعوب أواسط وجنوب شرق آسيا. وهذه هي قدرة الإسلام على تعريب الشعوب. بل إن المستشرق الأوروبي، البريطاني أو الفرنسي أو الألماني أو الإيطالي أو الإسباني أو الهولندي ما دام يعرف العربية فهو عربي، ولو بالثقافة. ولذلك فرّق القدماء بين العرب العاربة والعرب المستعربة. والهوية الثالثة الثقافة، أي الثقافة العربية أو الإسلامية التي تربط العرب جميعاً، مسلمين ومسيحيين. وهم الذين ساهموا في صنع الثقافة الإسلامية. فالإسلام ليس ديناً فقط بل أيضاً ثقافة تحتضن الثقافات الأخرى، اليهودية والنصرانية التي تنشأ في أرضها. فالهوية العربية إذن على مستويات ثلاثة: اللسان، والقلب، والعقل. اللسان للغة والمكان، والقلب للإيمان، والعقل للثقافة. وكلها تأكيد للذات التي تجمع بين هذه الهويات الثلاث. وتتصارع هذه الهويات المتداخلة في حالة تضارب المصالح بين المكان واللسان والثقافة. تتضارب مصالح المكان في البحث عن توسيع السلطة، والتعامل مع المكان باعتباره غزواً في حاجة إلى توسع براً أو بحراً أو جواً. ومن خلال المكان تتوسع اللغات المحلية بدل تعريبها والإبقاء على القوميات القديمة. ومع صراع الأمكنة والقوميات هناك صراع المصالح. فالشعوب تنظر إلى هوياتها من خلال مصالحها. ولم تستطع هوية الثقافة والتاريخ التخفيف منها. وتغلب الخاص على العام. وهنا بدأ التفتيت، وانتشرت التجزئة. وتحولت قوة المكان إلى ضعف، إلى مساحة كبيرة ليس لها صاحب، تحتاج إلى من يستوطنها. وتحولت الثقافة إلى مجرد فنون شعبية. وفي الفن الكل يجد نفسه. ولكن هل تستطيع السياسة أن توحّد بين هذه الهويات المتداخلة للصالح العام، سياسة التوافق والتصالح والتناغم والمصالح المشتركة؟ الهويات تمسك بالأصالة بعيداً عن الأحلاف والقواعد الأجنبية، والتداخل هو التعدد والتناغم بعيداً عن التشرنق حول الذات والانعزال عن الآخر. ليست القضية من يحيط بمن وإنما القضية هي فهم الهويات المتداخلة بين المكان واللسان والعقل حتى يظهر التناغم والتآلف بينها، ويوقف سفك الدماء. ---------- أستاذ الفلسفة - جامعة القاهرة