هل العالم يتجه حقاً نحو أن يكون أكثر عدلاً وأكثر ثراءً؟ هناك علماء اقتصاد قليلون مؤهلون للإجابة عن هذا السؤال، على رأسهم «أنجس ديتن»، الأستاذ بجامعة برنستون، والفائز مؤخراً بجائزة نوبل للاقتصاد، والذي أجرى العديد من الأبحاث والدراسات الخاصة بقياس درجة الرفاه العالمي. ومن الأشياء الأخرى التي تؤهله لذلك هو أنه يتجاوز السردية الاقتصادية البحتة السائدة، ويتقصى الأبعاد الأخرى التي تسهم في تقدم الأمم كالصحة الجيدة على سبيل المثال. وفي كتابه «الهروب الكبير» الذي نعرضه هنا، يقدم ديتن رؤية متفائلة بشكل عام لتطور الأحوال الاقتصادية العالمية، وهي رؤية تناقض ما يتبناه بعض الخبراء الاقتصاديين المتشائمين الذين يرون أن فجوات الدخل بين الدول لم تضق على مدى الخمسين عاماً الماضية، بينما يصر ديتن على أن هذا الحكم وإن كان صحيحاً جزئياً، فإنه غير قابل للتعميم، إذ بينما ازدادت بعض الدول فقراً، خصوصاً في أفريقيا (مثل النيجر والكونغو)، فإن هناك دولاً كثيرة نجحت في تجسير الفجوة، كسنغافورة وماليزيا على سبيل المثال لا الحصر. ويرى ديتن أن التركيز على فجوات التقدم بين دول أغلبها صغيرة، يهمل حقيقة أن أكبر دولتين في العالم من حيث الكثافة السكانية، وهما الصين والهند، نجحتا في تحقيق تقدم سريع، وهو ما يخفض منسوب عدم المساواة الاقتصادية في العالم. وضمن عناصر القوة التي تتضمنها مقاربة ديتن لجوانب عدم المساواة الاقتصادية في العالم، أن تلك المقاربة لا تنحصر فحسب في قياس مستويات المعيشة المادية، وإنما تتعداها إلى جوانب أخرى. فوجهة نظره في هذا السياق هي أنه عندما يقل منسوب عدم المساواة في العالم، فإن الشعوب التي تتمكن من تجسير الفجوة أو تضييقها، لا تصبح أكثر رخاءً فحسب، بل إن سكانها يصبحون أطول عمراً، وأطول قامة، وأقوى جسماً. ويرى كذلك أنه عندما يتم أخذ التحسن في الصحة في الحسبان وإيلاءهما الاهتمام الكافي، فإنه يمكن تحقيق المزيد من الإنجازات في مجال الحد من عدم المساواة عالمياً. لكن ديتن يبدي قلقاً بشأن الاتجاهات الحديثة في أميركا، حيث يتم احتكار ثمار النمو الاقتصادي من قبل الفئات عالية الثراء، بينما تظل مستويات المعيشة لدى الفئات الأخرى على حالها. وهنا قد يطرح علماء الاقتصاد المختلفون مع ديتن سؤالاً يبدو وجيهاً هو: أليس من المفترض أن يدفع المحظوظون الذين يتمتعون بصحة أفضل، وحياة أطول، والذين يعيشون في رفاهية، المزيد من الأموال في صورة مساعدات، لانتشال سكان الدول المتخلفة من وهدة الفقر؟ ديتون يختلف مع رأي هؤلاء العلماء، ويشن هجوماً حاداً على منظومة المساعدات الدولية في شكلها الحالي، ويقول إنه باستثناء برامج الرعاية الصحية للمنظمات العالمية المتخصصة، فإن تلك المساعدات تسبب من الأضرار أكثر مما تحقق من الفوائد. ذلك أن العائق الرئيسي للتقدم في الدول الفقيرة، في اعتقاد ديتون، ليس الافتقار إلى الموارد، وإنما الحكومات الفاسدة وغير الكفؤة، التي تتلقى المساعدات من المانحين ولا تستغلها في تحقيق مصالح شعوبها، علاوة على أن استمرار تدفق المساعدات الأجنبية على تلك الدول يقلل دوافعها لتحصيل المزيد من الأموال من خلال دافعي الضرائب فيها، كما يحول بينها وبين تبني سياسات صديقة للنمو، وإصلاح مؤسساتها التي تعاني من الفساد وعدم الكفاءة. كتاب «الهروب الكبير» يغطي الكثير من المجالات، ويحتوي على العديد من النقاط التي قد يختلف علماء آخرون معها، لكن موضوع الكتاب بشكل عام متنوع وشامل، وكان يحتاج إلى قماشة متينة ولمسات جريئة بالفرشاة، وهو ما قدمه «ديتن» بكفاءة في هذا الكتاب الشيق رغم جهامة موضوعه. سعيد كامل الكتاب: الهروب الكبير، الصحة، الثروة وأصول عدم المساواة الكاتب: أنجس ديتون الناشر: برينستون يونيفرستي برس تاريخ النشر: 2015