لأمين معلوف كتاب بعنوان «الهويات القاتلة»، يتناول فيه ضمن محاور أطروحته مسألة وجود العديد من الهويات التي ينتمي إليها كل واحد منا، كالهوية الوطنية والعرقية والدينية والمهنية.. إلخ. ويفترض أن هويات الإنسان المتعددة لا تثير أية مشكلة أو حساسية، له أو لغيره، لكن تبدأ المشكلة حين يرفع المجتمع من شأن هوية ويحطّ من أخرى، كأن يحظى أبناء مذهب باحترام يفوق الاحترام الذي يلقاه مواطنوهم من مذهب آخر، أو هذا العرق على ذاك العرق، أو ابن هذه المنطقة على ابن منطقة أخرى. والمجتمعات التي تعي خطورة مثل هذه الأوضاع، تحول دون تحوّل ذلك الاحترام أو عدمه إلى واقع على الأرض، فتمنع دساتيرها التمييز بين المواطنين على خلفية أصولهم وأعراقهم ودياناتهم ومذاهبهم. ومع هذا، لا تنتهي المشكلة بوضع دستور عصري وبقوانين متسقة معه، إذ تبقى تحرك الأرض من تحت أقدام المجتمع إذا بقي ذلك الاتفاق الضمني أو الشعور الجمعي بتميز هوية على أخرى. ذلك الاتفاق غير المكتوب يتجلى في مظاهر تقف أمامها القوانين مغلولة اليدين، كرفض الأسر تزويج بناتها لأشخاص من خلفية عرقية أخرى، وتخلّص الشخص الذي تصله طلبات التوظيف من بعضها بتكتم وخفاء، لأسباب تتعلق بالهويات، وفي بعض النكات التي توجه رسائل مبطنة تزدري هوية ما، وفي بعض المواد المقروءة والمرئية والمسموعة التي تفلت من بين يدي المحررين وفيها بعض التعليقات هنا وهناك. مثل هذه الأوضاع التي لا يلاحظها الكثيرون تقلل من الدور الذي تقوم به القوانين على الملأ، ولا تعود القوانين تعطي حالة الثقة بوجودها والطمأنينة بأنها الحامية للهويات من التمييز ضدها، أعني أن الذي يفقد فرصة ما، يفكر فوراً في التمييز ضده وليس في عدم كفاءته مثلاً، وتترسخ لدى جماعته فكرة أن القانون شيء وأن الواقع شيء آخر. لذلك، لا يكفي أن تصدر قوانين تجرّم التمييز بين الهويات، بل ينبغي التحرك لردم الفجوات بينها، أعني أنه لا يكفي أن تمنع مثلاً رسوم الكرتون المسيئة لهوية ما، والتي قد تظهر أبناء عرق ما كأغبياء ومعتادين على الإجرام، بل لابد من إنتاج رسوم كرتون تحمل مضامين بأن الجميع متساوون، وأن التميز شأن شخصي أو ذاتي بحت، لا علاقة له أبداً بهوية الإنسان، كمن يتميز بمؤهله العلمي، أو بكفاءته المهنية، أو بلوحاته الفنية، أو بصوته الرخيم، أو بالخدمات التي يقدمها لبلاده ولأبناء شعبه. بالمساواة بين الهويات يشعر كل منتم إلى بلد أن كل ذرة تراب فيه ملك له، وأن كل مرفق كأنه بيته، وأن كل مواطن أخ له، وأن الطريق إلى النجاح مفتوح أمامه بالجهد والإخلاص، فليس ثمة شيء سيخسره بسبب أي هوية من هوياته، وليس ثمة شيء سيكسبه لمجرد انتمائه لهذه الهوية أو تلك، وهذه هي الوصفة الناجعة لاستقرار البلدان والنهوض بالأوطان وتقدم المجتمعات. لن يأتي اليوم الذي ستكون فيه لجميع الأفراد هوية واحدة، باستثناء الهوية الوطنية الجامعة بطبيعة الحال، ستبقى هناك أديان ومذاهب مختلفة، وأعراق وأصول متنوعة، وجهات وفئات، والقوانين والتعليم والإعلام والثقافة يمكنها منع تحول الهويات إلى محبطة، ثم إلى غاضبة، ثم النتيجة المحتومة: قاتلة.