كلنا نتذكر اليوم الذي التقى فيه في باريس كل من مؤسس حركة نداء تونس الباجي قائد السبسي والغنوشي في 15 أغسطس 2013 واتفقا على ضرورة تبني الحوار الوطني كقاعدة أساسية ووحيدة في بناء الدولة والنظام التونسي، وهو اللقاء الذي كانت فيه بذور إيجابية لتونس وللديمقراطية الفتية في ذلك البلد. وتولّد عن هذا اللقاء انطلاق الحوار السياسي في أقل من شهرين، وبالضبط في الخامس من أكتوبر بعد الاتفاق على تنفيذ مبادرة الرباعية التي قادت الحوار الوطني، وهي الرباعية التي منحت لها جائزة نوبل للسلام لسنة 2015. وهذه اللحنة الرباعية تتكون من الاتحاد العام التونسي للشغل (نقابة العمال)، والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة (نقابة رجال الأعمال)، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، وهيئة المحامين التونسيين (نقابة المحامين). والرباعي هذا نجح في وضع لبنات الحوار الديمقراطي على السكة الصحيحة سنة 2013، خاصة بعد اغتيال المعارض اليساري شكري بلعيد والنائب البرلماني عن التيار القومي محمد البراهمي. وهذه سنة دائمة في أدبيات الانتقال الديمقراطي، ولنا في تجارب أوروبا الغربية وأوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية عدة أمثلة، حيث إن التخلص من نظام عسكري أو ديكتاتوري، يتطلب صبراً عميقاً من كل الفاعلين، ونكراناً للذات السياسية، وإعلاء كلمة الوطن على كل المزايدات السياسوية الضيقة، وتواجد فاعلين سياسيين كبار وحكماء، تسمع كلمتهم ولا ترد، ويتميزون ببعد نظر ثاقب للتجذير لعملية سياسية جديدة في ظل حالة سياسية معقدة موسومة بالمجهول والخوف وكثرة المتدخلين، وتواجد أصحاب النظام القديم في مؤسسات الدولة السياسية والاقتصادية بل والأمنية والعسكرية. ولذا فقد ميز المختصون في مجال الانتقالات الديمقراطية بين الانتقال الديمقراطي والتجذير الديمقراطي. فلا يعني انهيار رأس النظام السياسي الديكتاتوري حلولاً أوتوماتيكياً لفصل ربيع ديمقراطي، بل يمكن أن تقع كوارث تأتي على الأخضر واليابس لفقدان الشروط الضرورية وعلى رأسها تواجد أو تفعيل عمل الفاعلين السياسيين الكبار والحكماء ممن لهم قوة وقدرة على الاقتراح والإقناع ولم شمل القلوب والعقول المتناحرة. فبانعدام هذه الفئة تنهار القشرة الحامية للدولة وللمؤسسات، ليقتتل إخوة الأمس على كراسٍ سياسية فانية، وعلى براميل البترول، فاتحين الباب لـ«الدواعش» وللإرهابيين الذين أصبحت ليبيا، مثلاً، وجهة محجاً لهم. فالانتقال الديمقراطي تعثر في هذا البلد على رغم النوايا الحسنة للعديد من البلدان والمؤسسات الدولية المقتدرة، لأن هناك شيئاً لم يقع في ليبيا، وهو تفعيل عمل هؤلاء الحكماء.. وفي تونس تواجدوا وأفادوا بل وأنقذوا المسيرة السياسية برمتها، ولولاهم لخاب أمل التونسيين في السياسة وأهلها. ونتذكر ماذا وقع لما اغتيل شكري بلعيد ومحمد البراهمي، إذ ظهرت أزمة عميقة بين أصحاب الحكم الانتقاليين ممثلين في تحالف «الترويكا» الذي يشمل حركة «النهضة» وحليفها حزب «المؤتمر من أجل الجمهورية» الذي كان يترأسه المنصف المرزوقي، وحزب «التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات» بقيادة مصطفى بن جعفر، وبين المعارضة، ممثلة في هيئات حزبية ليبرالية ويسارية كتحالف «الجبهة الشعبية» بقيادة حمة الهمامي وحركة «نداء تونس» التي كان قد أسسها الباجي قائد السبسي. ثم إن الأزمة كانت خطيرة جداً إلى حد أنه في تلك الفترة، كان اقتحام المجلس التأسيسي (البرلمان) مسألة وقت فقط، ناهيك عن المظاهرات المتوالية، كما أن المبادرات المتلاحقة التي كان قد تقدم بها العديد من المنظمات والشخصيات التونسية لم تجدِ في شيء. وحدها خطة الرباعي الراعي للحوار الوطني هي التي آتت أكلها لأنها كانت واقعية وذات مصداقية، ونابعة من أناس وطنيين ومقتدرين تهمهم مصلحة الوطن وتثبيت بناء وعي سياسي جديد قادر على أن يشتبك اشتباكاً استراتيجياً وتاريخياً مع هموم اليوم والغد، ومع أصول الانفتاح السياسي والليبرالي في منطقة تعمها الفوضى وحال يحتاج فقط إلى بعض من الحكمة السياسية لإيصال البلد إلى بر الأمان، فتم إذن تبنيها من كل الفرقاء، وكان من أهدافها الرئيسية التسريع بالتصديق على دستور تونسي جديد، واستقالة حكومة القيادي في حركة «النهضة» علي العريض، لتعوض بحكومة تكنوقراط وانتخاب أعضاء الهيئة العليا المستقلة للانتخابات والتصديق على القانون الانتخابي.. وهي أهداف واضحة، وعقلانية أنجحت كل المسار السياسي إلى اليوم. إن تهيئة المناخ الاجتماعي والسياسي للحوار هي القاعدة الأولى في كل بناء ديمقراطي، وإذا تواجد فيها حكماء نبهاء عليهم إجماع وطني، فتلك هي المفازة التي تنجي البلاد من متاهات الفوضى والمجهول... ولا أخال دولة من دول العالم كيفما كان نوعها لا يمكن أن تنجب مثل هؤلاء الحكماء، ولكن يجب فقط معرفة كيفية حضورهم لسبر أغوار المشاكل المتراكمة بسبب انهيار النظام القديم، والتفاعل مع كل الفاعلين السياسيين، وطريقة التواجد الفعلي كقوة اقتراح تجمع ولا تفرق، توحد ولا تقصي.