منذ أحداث 11 سبتمبر 2001، والعقل الاستراتيجي في واشنطن يسعى للحفاظ على أحادية القطب الأميركي، ومنع أي دولة أو جهة، ولو باستخدام القوة العسكرية، من الظهور كقوة منافسة. فمنذ سقوط الاتحاد السوفييتي، اعتبرت الولايات المتحدة الأميركية نفسها القطب الأوحد في العالم، بلا شريك ولا منازع، من حقه عقاب أي منافس، وذلك بالاعتماد على «سياسة الردع» ذاتها خلال مرحلة الحرب الباردة، حيث اعتقد العالم حينها أن الاتحاد السوفييتي تفكك لعدم قدرته على مجاراة الولايات المتحدة في هذه السياسة. فهل لا يزال هذا الوضع قائماً؟ وهل «الأحادية القطبية» كانت في الأصل مؤقتة وقصيرة؟ سؤالان يطرحان مع عودة روسيا بقوة إلى الساحة الدولية، في ظل سياسة خارجية أميركية جديدة تعتمد على شركاء على الأرض دون حشد حملات عسكرية واسعة النطاق في الخارج. يرى كثيرون أن إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما تفتقر إلى الرؤية على صعيد السياسة الخارجية، تماماً كما قال عنه أستاذ التاريخ والعلاقات الدولية بجامعة بوسطن الأميركية أندرو جيه باسيفيتش، من أنه «فشل في فتح صفحة جديدة مع العالم الإسلامي، في القضية الفلسطينية، وفي إنهاء الحرب في العراق، وفي إعادة رسم العلاقات الأميركية ــ الروسية». وعليه، ها هي روسيا تعلن صراحة عن عودتها إلى ممارسة سياسة الردع العسكري التي كانت قد تخلت عنها بعد انهيار الاتحاد السوفييتي: جورجيا، القرم، أوكرانيا.. وحالياً سوريا، الأمر الذي قد يؤشر على أن استفراد الولايات المتحدة بالعالم قد انتهى أو هو يقترب من ذلك، وأن العالم ربما أصبح بصدد عملية تعيد التوازن إلى النظام العالمي كنوع من «تحديث التوازن» مع افتراض الانحسار التدريجي للهيمنة الأميركية المطلقة بعدما عادت روسيا إلى صدارة المشهد الدولي من جديد، مستثمرة ما يبدو وكأنه تراجع أميركي لتشغل فراغاً وتخلق أمراً واقعاً جديداً، بعد أن تأكد لروسيا من واقع تجربتها في جورجيا والقرم وأوكرانيا أن أميركا، ومن ورائها حلف شمال الأطلسي، ليسا في وارد التصادم العسكري معها. وفي الشرق الأوسط، المنطقة الأكثر حيوية في العالم، ترى أوساطا غربية ودولية عديدة تقهقر تأثير واشنطن، بل إن تقريراً إخبارياً لوكالة «رويترز» اعتبر، معتمداً على آراء خبراء أميركيين وغربيين، أن الخطوات التي قامت بها روسيا في سوريا وانتزاعها المبادرة من الولايات المتحدة أذهلت واشنطن، وأثبتت فشل السياسة الخارجية الأميركية: المقاتلون الذين دربتهم الولايات المتحدة سلموا عتادهم ومؤنهم لمسلحي «القاعدة»، تزامناً مع بلوغ العمليات التي تديرها القوات الحكومية في العراق ضد تنظيم «داعش» طريقاً مسدوداً. أما في أفغانستان، فلأول مرة منذ عام 2001 حين تم طرد حركة «طالبان» من المدن الكبرى، عاد مسلحوها إلى مدينة قندوز. لكن بالنسبة للبعض، من مسؤولين كبار ومراقبين، ليس من الواضح ما إذا كان دخول روسيا بشكل مباشر وفعال على الخط العسكري في سوريا يمثل خطوة مدروسة أم لا، وهل في أذهانهم أفغانستان الثمانينيات، رغم أن سوريا هي بلد السهول وأفغانستان بلد الجبال المعزولة الذي تندر فيه الطرق وتكثر فيه الأودية التي لا مخبأ فيها من كمائن المقاتلين. غير أن لدى روسيا حلفاء في المنطقة الآن يأخذون على عاتقهم عبء العمليات البرية، مع ملاحظة -وهذا هو الأهم- أن الولايات المتحدة لا تستطيع رسمياً تشكيل تحالف معاد لروسيا الآن، لأنها ستبدو أمام المجتمع الدولي في دور المدافع عن الإرهابيين. وبينما انتزعت موسكو من واشنطن زمام المبادرة في سوريا، يتصاعد المأزق في العراق حيث لا نجاح فعليا في محاربة الإرهاب، لذلك رحّبت بغداد (حليفة الولايات المتحدة) بأي جهود روسية لمحاربة «داعش» في العراق، ووافقت على التنسيق المتنوع مع روسيا بوتين. إن دخول روسيا كلاعب أساسي في الأزمة السورية بهذه القوة هو رسالة لجعل عهد أحادية القطب في العالم يولي إلى أمد قد يقصر أو يطول، ووراثة «الاتحاد الروسي» للاتحاد السوفييتي، على قاعدة أن روسيا الآن على استعداد للذهاب بعيداً في الدفاع عن مصالحها، سواء قريباً أو بعيداً من حدودها، خاصة بعد أن أعاد بوتين بسط النظام داخل روسيا ورتب الأمور على حدودها: لم يسمح بانهيار طاجكستان، أو انزلاق أذربيجان وأرمينيا إلى حرب طاحنة، و«حرر» أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية من جورجيا، وسحب القاعدتين الأميركيتين من أوزبكستان وقرغيزستان، وأعاد القرم إلى «الوطن الأم» روسيا. فهل استفاقة «الدب» الروسي من سباته مؤكدة؟ وهل ستسفر عن «قطبية ثنائية» أو «قطبية متعددة»؟ وهل، فعلا، غادرت الولايات المتحدة موقعها كقطب أوحد؟ الأجوبة عن هذه الأسئلة ستتضح في قادم الأيام.