ربما تصعب المفاضلة بين الولايات المتحدة وروسيا، خصوصاً لدى النظر في النتائج المباشرة والملموسة لسياساتهما. وتبدو مواقفهما حالياً من القضية السورية مثالاً بليغاً، سواء في شقّها المتعلق بمحاربة الإرهاب كغطاء للتدخل الروسي أو في شقّها الدبلوماسي الذي يدّعي البحث عن حل سياسي للأزمة كتبرير للسلبية التي اعتمدتها واشنطن حيال الشعب السوري وطموحاته. تزداد المفاضلة صعوبةً عندما نتذكّر أن قضية العرب الأولى في فلسطين لم تستطع أن تحقق أي مكاسب أيام صراع الدولتين الكبريين في الحرب الباردة، ولا عندما أصبحت أميركا القوة العظمى الوحيدة، ولا مع تجدد الصراع وارتسام نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب. فهذه الصيغة لم تشهد إضافة إيجابية لأن الصين تبدو مصطفة وراء روسيا في مواجهة أميركا، ولم تستطع ترجيح «الخط الثالث»، الذي تحدثت عنه في أعوام سابقة. لكن الظاهرة النافرة في تعدد الأقطاب هي تفاقم حدّة الانقسام غير المبرّر في أحيان كثيرة، كما في ازدياد استخدام الثنائي الروسي- الصيني حق النقض (الفيتو) على نحو «قاتل» وعدواني في مقاربة الأزمة السورية، إلى حدّ أنه تجاوز عدوانية «الفيتو» الأميركي الدائم ضد كل ما يتعلّق بحقوق الشعب الفلسطيني. لا بد أن يتصاعد الشكّ في أي مفاضلة بين أميركا وروسيا عندما تُطرح مسألة محاربة الإرهاب، وبالأخص محاربة تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش). فالدولتان الكُبريان تتنافسان الآن على خوض هذه الحرب في سوريا، وأصرّت أميركا على أن يقتصر تركيز التحالف الدولي الذي تقوده على «داعش» من دون التعرّض للنظام السوري الذي فتح الطريق لهذا التنظيم إلى داخل سوريا، وأوجد له البيئة المناسبة للانزراع في مناطق المعارضة وتعاون معه ويقيم حالياً تجارة وقود معه فضلاً عن تبادلهما الخدمات. كانت الحجة الأميركية (قبل الاتفاق النووي)، أنه يجب تجنّب استفزاز روسيا وإيران، وبالتالي استبعاد أي إيحاء بأن «التحالف» يمهّد لتدخل دولي ضد نظام بشار الأسد، وذلك حفاظاً على مقوّمات «حل سياسي» للأزمة الداخلية في سوريا. لكن روسيا وإيران (ما بعد الاتفاق النووي) وجدتا في هذه الاستراتيجية الأميركية ثغرة لتدخل أوسع من جانبهما بغية إنقاذ نظام الأسد وتثبيته واستخدام «شرعيته»، تحت غطاء مقاتلة «داعش». واستندت حجّتهما إلى: 1) أن الضربات الجوية الأميركية لا تضعف التنظيم، ولن تفلح في اقتلاعه، بل تساهم في تقويته، و2) أن فصائل المعارضة نجحت في توجيه ضربات موجعة للنظام أنذرت بقرب انهياره، و3) أن بقاء المعادلة على ما هي سيعني لاحقاً أن نفوذهما ومصالحهما في سوريا ستصبح بدورها مهددةً. لذلك وجب التدخّل لحماية هذه المصالح عبر تعويم النظام عسكرياً وإبراز دوره في محاربة الإرهاب وتمكينه من استعادة مناطق كان خسرها تمهيداً تمهيداً لفرض «حل سياسي» يكون الأسد مشرفاً على تنفيذه. بين الحجج التي استخدمها الرئيس الروسي دفاعاً عن مشروعية التدخل في سوريا أن مقاتلين من الشيشان وبعض دول القوقاز أصبحوا نواة صلبة في تنظيم «داعش» كما في «جبهة النُصرة»، ونال فلاديمير بوتين دعماً طلبه من الكنيسة الأرثوذكسية التي أعلن رأسها أن روسيا ذاهبة إلى «حرب مقدّسة» في سوريا. وطبعاً أثار الدعم الكنسي ذهول مسيحيي الشرق الذين وجدوا فيه تهوراً وقصر نظر بسبب التوتر القائم حالياً بين الأديان، سواء في الجدل الدائر حول الفكر المتطرّف والتنكّر بالدين الإسلامي أو في الضغائن التي تغذّيها الانتهاكات الإسرائيلية للمسجد الأقصى في القدس الشريف. لكن الأهم أن أحداً لم يسأل لماذا يأتي شيشانيون وقوقازيون ليقاتلوا في سوريا، إذ لا بد أن ثمة مسؤولية عن ذلك في القمع العسكري الروسي لشعوب تلك البلدان، والمسؤولية تنسحب أيضاً على الدول التي صمتت عن ذلك القمع وعلى رأسها الولايات المتحدة. وقبل ذلك لا بد من العودة أيضاً إلى جذور الإرهاب «الإسلامي» المعاصر، أي إلى الاحتلال السوفييتي (الروسي) لأفغانستان واستخدام أميركا الحسّ الإسلامي ل «صدّ الشيوعية» الزاحفة جنوباً. كلا الدولتين الكُبريين لعبتا دوراً في تصنيع التطرّف وإنتاجه، وبعد الانسحاب السوفييتي انفضّ الاهتمام الأميركي بأفغانستان، وأُهمل الاسلاميون المقاتلون فيها، فكان ما كان... إلى أن ظهرت النتيجة في أميركا (11 سبتمبر 2001) وفي احتلال أفغانستان وتلقّف إيران «القاعديين» الهاربين، ثم في احتلال العراق ودخول «القاعدة» إليه، وصولاً إلى «داعش» وسيطرته على أجزاء من العراق وسوريا. والآن، هناك «تحالفان» تقودهما أميركا وروسيا لمحاربة الإرهاب، أو بالأحرى للمساهمة في انتاج نمط «ما بعد داعشي» منه، ما يعني أن الارهاب بات أفضل وسيلة لحماية مصالحهما في المنطقة. محلل سياسي- لندن