تناولت المقالة الماضية موضوع الوساطة في الصراعات العربية، والتي أشرت فيها إلى أن توفر مقومات الوسيط الناجح في هذه الدولة أو تلك لا يضمن نجاح الوساطات بدليل أن أياً من محاولات الوساطة التي يتردد الحديث عنها في صراعات بعينها لم ينجح حتى الآن. والواقع أن ثمة متغيرات مهمة نابعة من الصراعات نفسها تحدد مدى ملاءمة صراع ما للوساطة من عدمه، ومن هذه المتغيرات القضية التي يدور حولها الصراع ودرجة الاستقطاب فيه وعدد أطرافه ومرحلة تطوره، فلا يمكن في تحديد مدى قابلية صراع ما للوساطة المساواة بين صراع يدور حول استقلال شعب من احتلال أجنبي أو تغيير نظام الحكم في دولة ما وصراع حول شروط عقد اتفاق تعويض بين دولتين. ولا يمكن في السياق نفسه المساواة بين صراع يسوده نمط المباريات الصفرية، أي تلك الصراعات التي لابد وأن تنتهي بهزيمة طرف للآخر، وتلك التي يمكن التوصل فيها إلى توزيع مقبول للمكاسب بين طرفي الصراع. ولا يمكن ثالثاً أن تكون تسوية صراع ما تتورط فيه أطراف عدة إقليمية وعالمية بسهولةِ تسوية صراع مقتصر على طرفين حصراً، وكذلك لا يمكن أن تكون تسوية صراع مازال يمر بمرحلة تتصور فيها أطرافه إمكان تحقيق النصر الكامل على الخصم بسهولةِ تسوية صراع وصل إلى حالة من التجمد لا يستطيع فيها أي من طرفيه أن يحقق نصراً، ففي الحالة الأولى يستمر التصعيد سعياً إلى تحقيق النصر أما في الثانية فتكون أطراف صراع ما أقرب إلى قبول تسوية. ويلاحظ أن الإدارات الأميركية المتعاقبة دأبت على عدم التدخل لتسوية أي صراع إلا بعد أن تستنزف أطرافه في عمليات القتال. ولسوء الحظ فإن كل صراعاتنا العربية المشتعلة الآن تتسم بالصفات التي تفضي إلى تعقد عملية التسوية السياسية وإن لحق بأحد هذه الصفات تغير محتمل على نحو ما سوف يجيء، فموضوع الصراعات كيان الدولة وطبيعة نظامها، ودرجة الاستقطاب على أشدها ليس فقط على مستوى الأطراف المباشرة للصراعات وإنما غير المباشرة أيضاً، وذلك لأن للصراعات تداعياتها الإقليمية والعالمية، وساحات الصراعات مزدحمة بالأطراف الإقليمية والعالمية وبالذات في سوريا، حيث تتزاحم الأطراف الفاعلة عربياً وإقليمياً ودولياً، وآخر التطورات في هذا الصدد التدخل الروسي المباشر. أما الأمل في الانتصار فقد سيطر طويلاً على أطراف كافة الصراعات بحيث كانت جميعها تطمح إلى أن تحقق أهدافها، غير أن مرور مدة زمنية طويلة زادت عن الأربع سنوات أحياناً وعدم اهتزاز قواعد تأييد الأطراف المتصارعة بدأ يفتح الباب ولو قليلاً لإمكان الحديث عن البدء في محاولات جادة للتسوية. ويتضح هذا بالذات في الحالة السورية، حيث حاول خصوم النظام السوري، سواء من المعارضة السياسية أو الفصائل الإرهابية أقصى ما في وسعهم لإسقاط النظام غير أن هذا لم يحدث حتى الآن لأسباب معروفة. صحيح أن معارضة النظام أياً كانت هويتها قد حققت نجاحات كبيرة بما في ذلك نجاحات إقليمية ولكن النظام لم يسقط، وعندما بدا أن وضع النظام يزداد تدهوراً واكب ذلك أن داعمَيه على المستويين الإقليمي والعالمي (إيران وروسيا) أثبتا أنهما غير مستعدين لرؤية النظام السوري الحليف يتهاوى، ومن هنا تصعيد الدعم له على نحو لافت، فثمة مؤشرات على دعم إيراني مباشر، أما روسيا فقد تدخلت علناً ورسمياً ولسان حالها أن الكل يتدخل دون استئذان وأنا أتدخل على الأقل بطلب من الحكومة التي ما تزال قائمة! وعلى الرغم من أن بعض التحليلات قد ذهب إلى أن من شأن التدخل الروسي أن يزيد من تصعيد الصراع إلا أنه لوحظت إشارة الرئيس الروسي إلى استعداد النظام السوري لقبول حل وسط، كما أن الدعم الروسي والإيراني من المحتمل أن يفضي إلى اقتناع الجميع بتسوية يشارك فيها كل أطراف الصراع تتضمن البدء في عملية ديمقراطية تحت إشراف الأمم المتحدة يقبل الجميع بنتائجها، ومن الممكن أن تحدث تطورات مشابهة في باقي الصراعات أو بعضها، غير أن نقطة البدء في هذا كله هي القضاء على فصائل الإرهاب. -------------- * أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة