قد يعترض البعض على الترتيب الذي يضع «فوكوياما» بعد «داعش»، مُعلناً أن الأول منهما جاء بعد ثانيهما، انطلاقاً من أن فوكوياما ظهر قبل «داعش» وأسس لمجيئه ولظهوره في بنية النظام الرأسمالي الاستعماري الإمبريالي، ذلك الاعتراض صحيح، ولكن الترتيب الثاني (داعش) أولاً يقود إلى وضع اليد على صحته، انطلاقاً من أن هذا الأخير يمكن أن يلقي ضوءاً ساطعاً على ما أنجزه فوكوياما، الذي أتى ونظَّر للغرب في بنيته الأخيرة المعبَّأة بكل «معطيات العالم»، حتى حينه. على هذا النحو، تمكن «فوكوياما» من تقديم أطروحته الأخيرة والدفاع عنها، حين أعلن أن البشرية بلغت قمة مسيرتها التاريخية، حين دخلت المرحلة الأميركية. فلقد أقصت هذه الأخيرة برأيه ما سبقها، وأدخلت العالم في مرحلته الأخيرة من تطوره. ومن ثم، فقد أصبح القطار التاريخي خصوصاً في «عربته الأميركية» المرجعية البشرية والمنقذة الأخيرة، ومن ثم غدا التاريخ العالمي ذا مرحلتين اثنتين حاسمتين، مرحلة ما قبل العولمة والمرحلة الأخيرة مرحلة العولمة، التي يُراد لها أن تكون نهاية التاريخ وغايته وأيقونته. في هذا المقصد من المسألة، يبرز السؤال التالي: هل تطور التاريخ منذ بداياته وحتى بلوغه النظام العولمي المتصاعد، هو المرحلة التي أسست لـ«داعش»، وإذا عرفنا أن الاستغلال الإنساني وهدْر كرامة البشر وغياب العدالة وهيمنة الظلامية مع غياب التعددية والتسامح والإفقار والاستبداد والتهميش قدم ضبطاً لتقسيم العالم إلى فريقين، الفريق الذي يجسد تلك الأوضاع، والفريق الآخر المغاير، والذي يسعى إلى استيلاد عالم جديد يجد الإنسان فيه شخصه محققاً أو قابلاً للتحقيق، نقول: إذا عرفنا ذلك، فإننا آنئذٍ نجد (داعشاً) قد ولد في «أحشاء المرحلة الأولى بصفته إرهاصاً بذلك القادم البعيد». وقد جاء «الربيع العربي»، بعُجره وبُجره، ليفضح أسطورة النظام العولمي كمخلِّص للبشرية لا بديل عنه، وليظهر هذا الفضح بصيغته الأكثر شجاعة وحيوية، مما جعل ذلك الربيع يبدو حقاً أنه أحد طرق الوصول إلى الحرية والكرامة والتقدم، وهذا يظهر تماماً في تكالب قوى الشر هنا وهناك وهنالك، على إسقاطه. ما يحدث في سوريا سيمثِّل مخزوناً غنياً هائلاً للمؤرخين أولاً، وللخلاص من ثلاثية الفساد والإفساد والاستبداد ثانياً، ولعل ذلك سيجيب عن أسئلة وإشكالات هائلة ستبقى برسم من سيتصدى لذلك راهناً ولاحقاً. ها هنا نكون قد ولجنا الحقل الأكبر الذي يتمثل بالحاضنة الكبرى لكل النيران المنطلقة الآن في العالم العربي، نعني المجتمع والسلطة والدين. وفي سبيل ضبط ذلك عبْر خطاب عربي منهجي صارم، نرى ضرورة النظر إليه في ضوء ثلاث مداخلات. أما الأولى منها فيقدمها ما أعلنه كارل ماركس، بأنه كلما ارتفعت قيمة الأشياء، هبطت قيمة الإنسان. أما المداخلة الثانية فقد قدَّمها الباحث الأميركي «ميشال بوغنون» في كتاب (أميركا التوتاليتارية)، حين كتب بوضوح دقيق فيه: العولمة هي «السوق المطلقة» ما بعد الحداثة، التي بتنا نعيش مظاهرها الكاسحة ليس في الغرب وحده، وإنما كذلك في بلدان عربية. وتبقى المداخلة الثالثة، المحددة بكون الدين، الذي يُراد له أن يكون حقاً وفعلاً، أفيون الشعوب، وذلك من مجموعات من السياسيين والمثقفين الراديكاليين. أما تلك الأخيرة من المداخلات الثلاث، التي كرَّسنا لها قسطاً وافراً مما كتبناه، فتكمن إشكاليتها – على صعيد الإسلام وغيره وبأيدي الكثير من الباحثين والأكثر من المؤمنين، في النظر إلى «المطلق اللاهوتي» و«النسبي المجتمعي»، على أن أولهما يأتي ضمن رؤية النسبي له، لكنه هو يقدم على رؤية ذات بعد مباشر وشخصي غالباً. ومن شأن هذا أن يجعل التواصل مع المطلق قابلاً للتحقق لدى نخبة أو نُخب فحسب من البشر. أما غير ذلك فهو أمر يقوم على أن النظر إلى المطلق يدخل في إطار البسطاء والرعاع من القوم. أستاذ الفلسفة بجامعة دمشق