يُعَدُّ الزعيم الصيني ماو تسي تونج (عام 1893-1976) أحد أبرز الزعماء في تاريخ الصين، فهو مؤسس الصين الحديثة، وواضع أسس التطوُّر الذي شهدته على مدى السنوات الماضية، وصاحب تراث سياسي وفكري ثري يضعه ضمن قائمة أهم القادة في القرن العشرين، ليس على الساحة الصينيَّة فقط، وإنَّما على المستوى العالمي، خاصة أنه عاش خلال فترة صعبة في تاريخ بلاده والعالم، مملوءة بالأحداث والتطوُّرات الكبرى. ولعل في الجدل الذي يثيره ماو، على الرغم من مُضيِّ عقود على رحيله، ما يؤكد أهميته والدور التاريخي الذي أداه، وإن اتفق معه البعض، واختلف البعض الآخر. ولم يأتِ الموقع المحوريُّ لماو في التاريخ الصيني من فراغ، وإنما من أفكار ورؤىً وطموحات كبيرة، أسهمت في تعزيز موقع الصين في الساحتين الإقليميَّة والدوليَّة، ووضعت الأسس التي قامت عليها نهضتها الاقتصادية والصناعية. لقد كان ماو مؤمناً بقدرة الصين على أن تكون قوة كبرى في العالم، وأنها تملك إمكانات مادية وبشرية تؤهّلها لذلك، على الرغم من الانتكاسات التي تعرَّضت لها، والتدخلات الخارجية في شؤونها، ومحاولات الغرب السيطرة عليها واستغلال ثرواتها في فترات تاريخية مختلفة من تاريخها، وهذه إحدى أهم سمات القادة العظام في تاريخ الأمم والمجتمعات، حيث يكون اقتناع القائد بقدرة شعبه على التفوُّق والنهوض، مهما كانت التحديات والعقبات، هو الأساس الذي ينطلق منه لتحقيق أهدافه، وتنفيذ أفكاره، ووضع وطنه على الطريق الذي يريده له. وفي هذا السياق لعب ماو دوراً أساسياً في قيادة الصين نحو التحرُّر والوحدة، والصمود في وجه المخاطر، حيث وقف ضد أيِّ انتقاص من سيادة الصين أو سيطرة على أراضيها، ولذلك قاوم بشدَّة تسليم الأراضي الصينية، التي كانت تحتلها ألمانيا، لليابان بموجب معاهدة فرساي عام 1919 بعد انتهاء الحرب العالميَّة الأولى، وأدَّى دوراً مهماً في التصدِّي للغزو الياباني لبلاده عام 1937. وعلى الرَّغم من أنه كان يتبنَّى الفكر الشيوعي، فإنه جاء بمفهوم جديد للشيوعيَّة يختلف عن الشيوعية الماركسية، ويتوافق مع ظروف الصين، وهو ما أصبح يُعرَف في الأدبيات الفكرية بـ«الماوية»، ولعل هذا النهج -نهج التوفيق بين الظروف المحلية والأفكار السياسية والاقتصادية والاجتماعية الكبرى- هو الذي ساعد الصين، ولا يزال، على أن تنتج نموذجها الذاتيَّ في التنمية، الذي يجمع بين مفاهيم الاشتراكية من ناحية وبعض جوانب الرأسمالية من ناحية أخرى. وفضلاً عن ذلك، فقد عزَّز ماو الانتماء الوطني لدى الصينيين، وجعله مقدَّماً على أي انتماء فرعيٍّ آخر، وهذا أحد أهم إنجازاته الكبرى أيضاً، لأنه حوَّل الصينيين من تقديس القبيلة والآباء والأجداد إلى الانتماء للوطن. وحينما أعلن ماو قيام جمهورية الصين الشعبية، في أكتوبر عام 1949، كانت الصين تعاني وضعاً صعباً بسبب الانقسامات الداخلية والحرب الأهلية، لكنه استطاع أن يعيد الاستقرار إلى البلاد، ويعزِّز وحدتها من ناحية، ويضعها على طريق النهوض والتقدُّم من ناحية أخرى، سواء من خلال إصدار قانون الإصلاح الزراعي عام 1950، الذي أنهى النظام الإقطاعي لملكية الأراضي الزراعية وسلَّمها للفلاحين، أو مشروعات النهوض بالتعليم والصحة، أو خطط التنمية الصناعيَّة، حيث كان ماو شديد الاهتمام بتحقيق نقلة صناعية كبرى في بلاده. وعلى الرغم ممَّا يثار من جدل حول مشروع «القفزة الكبرى إلى الأمام» الذي تبناه ماو، بهدف تحويل الصين إلى دولة صناعية، وأنه -أي المشروع- لم يحقق أهدافه، فإن ما يهم هنا هو الفلسفة التي وقفت وراء هذا المشروع، وهي أن الصناعة مكوِّن أساسي لأي اقتصاد قوي، ومن ثم فإن الأمم الناهضة والطامحة نحو التقدم عليها أن تهتمَّ بها، وتمنحها أولوية كبرى، وهذا هو النهج الذي انتهجه القادة الصينيون بعد ماو، والطريق الذي ساروا عليه. وعلى الرغم من أن ماو قد تخلَّى عن مناصبه التنفيذية عام 1959، فإنه ظل رئيساً للحزب الشيوعي الصيني حتى وفاته عام 1976. ومن وحي تعليماته وأفكاره اختبرت الصين قنبلتها الذرية الأولى عام 1970، ومن ثمَّ أصبحت من القوى النووية الكبرى في العالم، وأطلقت قمرها الصناعي الأول عام 1970، وقبل ذلك استعادت مقعد الدولة دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي. لقد ترك ماو تراثاً سياسياً وفكرياً ثرياً، ولذلك فإنه يثير بعض الجدل والخلاف حول مسيرته، بين مَن يعُدُّه رمزاً مقدساً لا يجوز المساس به، ومَن يرى أنه ارتكب أخطاءً كبيرة، وهذا -في رأيي- لا يقلل ممَّا حققه ماو من إنجازات، وما أحدثه من تحول كبير في تاريخ الصين الحديث، فهو في النهاية بشر يخطئ ويصيب، ولا يمكن الحكم عليه إلا من خلال الظروف والمعطيات التي عاش في ظلها، والملامح التي ميَّزت عصره، سواء داخل الصين أو خارجها، وهذه قاعدة أساسيَّة في فهم أحداث التاريخ وقراءتها. وأياً ما كانت روايات التاريخ واختلاف أحكام المؤرخين، فإنني أرى أن الشعب هو أعظم وأصدق حَكَم على أيِّ زعيم سياسي، والزعيم الصيني ماو تسي تونغ هو أسطورة القرن العشرين في الصين، وينظر الشعب الصيني إليه بتقدير واحترام كبيرَين، على الرَّغم من مضيِّ عقود على وفاته، ويرى أنه بفضل تعاليمه غدت الصين صاحبة ثاني أكبر الاقتصادات في العالم بعد الولايات المتحدة الأميركية. ولا شكَّ في أن التقدُّم الكبير الذي حققته الصين، وتحققه، هو نتيجة عوامل مختلفة، اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية، ولا يمكن إرجاعه إلى تعاليم ماو فقط، كما يرى بعض المتعصِّبين له، خاصة أن الزعماء الذين جاؤوا من بعده أضافوا إضافات جوهرية إلى أفكاره، وحققوا نقلات مهمَّة، خاصة على المستويين الاقتصادي والاجتماعي. لكن في الوقت نفسه يرجع الفضل إلى ماو في وضع أسس الانطلاق، وأهمُّها: تعزيز ثقة الشعب الصيني بنفسه، والإيمان بأن الصين أمة عظيمة، ويجب أن تكون كذلك، وهذا هو سرُّ عظمة ماو وتفرُّده. ------------- كاتب إماراتي