أعلنت هيئة كبار العلماء في السعودية الأسبوع الماضي تدشينها الخطوات التنفيذية لاستراتيجية مواجهة الأفكار الإرهابية وتفعيل دور علماء الهيئة النابع من قلق بالغ من خطر الفكر الداعشي. هذا خبر جيد. من المهم أن نعرف أن فقه الجهاد عند المسلمين لم يتعرض لأي مراجعة حقيقية، وكثير من المؤلفات التي يمكننا أن نعثر عليها اليوم في الأسواق وتتضمن أبواباً عن فقه الجهاد، تأتي ضمن هذه الحالة. وبعض الرسائل الجامعية والأبحاث التي تتناول هذا الباب هي معالجة لا تخلو من خداع سمَح بأن تشق هذه الدراسات طريقها إلى الإنترنت والأسواق، حيث تستند هذه الرسائل على فكرة أن الجهاد مرتبط بولي الأمر وبقرار القائد الأعلى للدولة، متخذة من هذه الذريعة متكئاً لتناول صور متعددة من العمليات الانتحارية عبر نماذج مستقاة من عمليات «حماس» أو من الجماعات المسلحة الشيشانية. وهذا النوع من الطرح في أبواب ونوازل مشابهة يضخ في الرسائل الجامعية كلها لا تقول لك صراحة: اجعل من هذه الرسالة مستنداً لك تستثمر ما جاء فيها مبرراً للقيام بعمل إرهابي. فغالبية ما تذكره هذه الأبحاث مستند إلى كتب فقهية من المذاهب الأربعة ومن فتاوى علماء معاصرين، سواء كانوا علماء معروفين بتمثيلهم لمؤسسات فتوى رسمية ذات توجه تقليدي، أو لفقهاء ذوي ميول حركية لهم ارتباط وثيق بأجندات التنظيمات والجماعات، ولكنهم أيضاً ذوو تأثير واسع وعميق في منظمات إسلامية تحظى بالقبول وتمثل مظلة لخمس وخمسين دولة. ما هو دور الرقابة إزاء هذه المؤلفات التي يمكن الوصول إليها في مراكز البيع، وفي الأسواق؟ يبدو أن المشكلة أعمق وأعقد من هذا بكثير، هي أعقد من منع كتاب أو تشديد الرقابة عليه، هذه ثقافة واسعة ولها روافدها، اختلط فيها الإرث بالتاريخ والتقاليد، وبالمصالح والعوامل الأجنبية الطارئة التي حولت التدين البسيط إلى حركية مشوهة، ماذا يفيد أن تقوم الرقابة بمنع كتاب منح درجة علمية من واحدة من أكبر الجامعات في البلاد! ولا أظن أن أي مسؤول يدرك الأمانة العظيمة التي حملها يمكنه أن ينام قرير العين، وهو يجد في مراكز البيع كتاباً عن دراسة مقارنة في فقه الجهاد والعمليات الانتحارية. الدهشة لا تتوقف حين تكون الإجابة أن هذه الكتب تمثل محاولة لرفع الوعي بالوسطية الدينية والاعتدال وتوضيح العمليات الشرعية مما عداها! إنها أشبه بما أصبحنا اليوم نسمعه من مفاضلة بين «القاعدة» وبين «داعش». إن أحد وجوه فهم الأزمة الحالية هو أن علينا أن نفصل بين فقهين، الأول هو فقه تقليدي متوارث تتقاسمه المذاهب الإسلامية، والسُّنية هنا هي المقصودة، وهذا الفقه الذي تمثله المؤسسات الرسمية على رغم انسجامه إلى حد كبير مع توجهات الدولة ومراعاة الحساسيات السياسية، إلا أن مؤسسات الفتوى والشؤون الدينية لم تقم البتة بأي مراجعة شجاعة ذاتية لهذا الإرث وخصوصاً في مسائل فقه الجهاد، وأحكام الردة، والتعامل مع المخالف، وغاية ما نقرؤه ونسمعه اليوم هو تبرئة الإسلام والشريعة من الجرائم التي ترتكب باسم الإسلام، من دون نقاش تفصيلي للمبررات والحجج الدينية التي لم تولد من فراغ وليست وليدة اليوم. والنوع الثاني من الفقه هو استثمار الأول في تأسيس فكر جهادي تتمثل تفاصيلَه «القاعدة» و«داعش». لا يمكننا أن نتصدى لهذا الفكر ما دام الوعي بخطورته ليس محل اتفاق بين أصحاب الشأن الذين قد ينصاعون لإصدار بيانات عائمة تدعم في الظاهر سياسة الدولة، وتدين الإرهاب وتؤكد إيمانها بدعم ما تتخذه الدولة لحماية الأمن الداخلي والاستقرار والسلم الاجتماعي، ولكنها لا تلامس جذور وأسس هذا الإرهاب.