كانت مدارس عدن ومحافلها الثورية تصحو، في مناسبة ثورة 26 سبتمبر التي مرت ذكراها الـ43 هذا العام هامدة خامدة، على بيت القاضي محمد محمود الزُّبيري (اغتيل 1965): «يومٌ مِن الدَّهرِ لم تصنع أشعته/ شَمسُ الضُّحى بل صنعناه بأيدينا»، ومِن القصيدة: «قد كونته ألوفٌ مِن جماجمنا/وجمعته قرونٌ مِن مآسينا». ومع أن عدن وهي تردد هذا البيت، كانت لا تتهادن مع أي فكرة تجمع بين الدِّين والسياسة، وأظنها جاهلة أن قائله كان الزيدي المنتمي لـ«الإخوان المسلمين»، وجلهم باليمن مِن السلفيين، ويؤسس «حزب الله» بنسخته السُّنيَّة (1963)، ولا نجزم فربما يظهر التاريخ ما هو أقدم، والعهدة على كتاب عبد العزيز المسعودي «محمد الزبيري ومشروع حزب الله». يتبدل الزمن وتظهر جماعة زيدية، اشتهرت بالحوثية أو الحوثيين، وتقوم بتأسيس «أنصار الله»، مع أنه تعالى لا يحتاج لجماعة أو حزب أو أنصار، يتمحور في تنظيم سياسي. لا نعلم هل كان توارد خواطر أم تقليد ماركة، أن تسمي إيران الإسلامية تنظيمات داخلية وخارجية باسم «حزب الله»، بعد الزبيري بنحو عشرين عاماً. ربما لم تعلم عدن الاشتراكية آنذاك، وهي تُعظم القاضي الزبيري كل التعظيم، أنه صاحب فكرة أو نظرية «وصاية الفقيه المحتسب»، وهذه فكرة أخرى يمكن أن تكون الخمينية استفادت منها وحورتها إلى «ولاية الفقيه المطلقة»، في ما بعد، فما بينهما خيط رفيع، أو مجرد اختلاف في الاسم. ومعلوم أن الفقيه المحتسب، في ما نرى ونسمع، عين الفقيه الولي تماماً. اعتبرت عدن 26 سبتمبر يومها، فأعلنته عطلة رسمية، على أنها كانت أماً لـثورتها 14 أكتوبر 1963، ومَن كان يتحدث عن الأخير مجبراً أن يُقدم له فضل الأول عليه، وإلا يُعد انفصالياً، وتلك كانت تهمة خطيرة في أعراف اليمن الديمقراطية. بعد 14 أكتوبر جاء يوم 30 نوفمبر 1967، يوم جلاء بريطانيا عن عدن، ويومها ظهر مَن رفض تعليم اللغة الإنجليزية لطلبة المدارس، وسمعتُ أن الحكومة البريطانية قدمت عرضاً للثوار أن يبقوا اسم المستشفى المركزي «الملكة أليزابيث»، وتتحمل تكاليفه، إلا أنهم رفضوا ذلك، ونسخ الاسم إلى مستشفى الجمهورية، تلك قصص كانت تتداول. كان أول وزير دفاع في حكومة اليمن الجنوبية (1967) علي سالم البيض، وكان عمره آنذاك (28 عاماً)، ولم يكن في الحسبان أن يتبنى هذا الحضرمي قرار الوحدة (مايو 1990)، وينزل مِن الرئاسة إلى النيابة، ثم يعتكف ندماً على ما فعل، فشاع بعدن حينها بالأسواق والمدارس عن العليين: علي باع (البيض)، وعلي اشترى (صالح)، وعلي قُتل (عنتر 1986)، وعلي هرب (ناصر محمد).. وهناك عليون آخرون من القادة لم يكن لهم دور في البيع والشِّراء، من الذين سببوا كارثة الوحدة على سكان دولة اليمن الديمقراطية الشعبيةِ، مِن أقصى المهرة إلى ساحل أبين بعدن، هكذا كان يُسمى. يضحك المتأمل للحوادث والمسجل للوقائع من تبدل الأيام؛ وبهذه السرعة الجنونية، أن تدافع عن الإمام الزيدي قوى سُنية محلية وإقليمية، وأن تستعدي عدن مَن حاول إنقاذها في حرب (1994)، ويُقدم إليها نصيحة صادقة مِن وحدة ليس مع شمال، إنما صفقة لعلي عبد الله صالح الذي أخذ لقب «المخلوع» بجدارة، وأراه لقباً نادراً في التاريخ، عُرف به إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك (فصار مصيره ضمن غرقى الزاب 132هـ)، عندما خُلع بعد فترة وجيزة من الخلافة، وعُرف به بعد قتله محمد الأمين (198هـ). جهدت عدن في وحدتها الداخلية، استشرافاً للوحدة اليمنية، فبعد حركة 22 يونيو 1969 ذابت ثلاثة أحزاب في تنظيم «الجبهة القومية الموحدة» (5 فبراير 1975)، لبناء الحزب الطليعي، وبعد مقتلة (1978) ظهر «الحزب الاشتراكي اليمني». اتخذ الكل الاشتراكية العلمية الماركسية نهجاً، فبدّل «حزب البعث» جلده وسمى نفسه «حزب الطليعة»، ونزع القوميون العرب (الناصريون) جلودهم في الجبهة القومية، ليلبسوا ثياب الاشتراكية غير العربية، وتنازل الجميع لنظرية «حزب الاتحاد الديمقراطي الشعبي» برئاسة عبد الله باذيب (ت 1976). هام الجميع في الوحدة بتأثير أمومة 26 سبتمبر لـ14 أكتوبر، بتوقع السير على الطريق الفيتنامي (1975)، فأخذت الأغاني تملأ أسماع العدنيين «الوحدة اليمنية يا شعبي أحسن انتصار»، و«عشت ياردفان عشت يا عيبان» (جبلان بالجنوب والشمال)، وإذا بوحدة الجبال أكثر رخاوة من الطين. لم يبق من مصائر الثورتين سوى اسمي صحيفتين؛ «26 سبتمبر» بصنعاء، و«14 أكتوبر» بعدن، عدا هذا لم يُنظر أثر للثورتين، لا الأم ولا البنت، حسب تولد الحوادث، أما الانقلابات بالشمال والجنوب فلا تُعد ولا تُحصى، وآخرها انقلاب المخلوع والحوثي.