أما وقد فشل الانقلاب العسكري في بوركينا فاسو، عقب أسبوع واحد من وقوعه في 17 سبتمبر 2015، فإن الرسائل أصبحت تتعدد على المستوى الأفريقي عن معنى ذلك، ومستقبل العملية السياسية في أنحاء القارة. وقد سارع البعض بالطبع بالحديث عن فشل العسكريين في استمرار فرض أسلوب الانقلاب كأسلوب لتغيير الحكم، وهؤلاء تغريهم مقابلة ذلك بقوة الحركة الشعبية، أو مغازلة فكرة الربيع العربي الأفريقي على مستوى القارة! لكن الرسالة التي يبعثها فشل انقلاب بوركينا فاسو تبدو أيضاً ذات دلالة أخرى، أو أنها تجيب على أسئلة أخرى، تتعلق بضرورة التفرقة بين مجرد «الانقلابية» وبين «الاستبدادية» أو الفساد. لأن «الاستبدادية» هي التي تحاصر شكل المشاركة الشعبية «والمحكومية»، ومن دون ذلك استطاع أربعة رؤساء آخرين في القارة، من أصول عسكرية وغير عسكرية تمديد مدد الرئاسة مؤخراً، والاستمرار في الحكم رغم أنف الجماهير. كما أن كثافة الفساد هي التي أسقطت خيار رئيس مدني كنسي مثل «جود لاك» في نيجيريا بالاقتراع العام الرئاسي الذي جرى أوائل هذا العام، بينما رشحت سمعة محاربة الفساد رئيساً عسكرياً في نيجيريا لينجح بشكل مناسب أمام ذلك المدني الفاسد. الاستبداد والانهيار الاجتماعي بالفساد، هما في تقديري من يسقطان النظم...وربما لأن العسكرية في أفريقيا قد أُسيء استخدامها في تأكيد الاستبداد والفساد معا، وقامت على عزل الجماهير عن الحكم والثروة، فقد أصبحت مهددة بالموقف الصعب الذى وجد فيه العسكريون «البوركينابيون» – كما يجرى التنسيب لأبناء بوركينا فاسو – كمثال لكل سلبيات الحكم في أفريقيا. فالعسكريون في هذا البلد منذ أكثر من ثلاثين عاماً، يعدون أنفسهم كمؤسسة استبداد فاسدة منذ انقلاب كومباوري 1987، والتسلل بذلك إلى حكم سانكارا العسكري «الثورى» نفسه. ومعروف أن أبناء قبائل «الموسى» الشهيرة بالصلابة في غرب أفريقيا، هم الذين أعدتهم فرنسا منذ كانت مستعمرة أو صاحبة نفوذ لاستثمارهم في بعض مواجهاتها في المنطقة، كما رأينا في مالى وتشاد والنيجر والكونغو...الخ. وهم من الجيوش القليلة التي برزت فيها قوة فرقة الحرس الرئاسي، تقنياً وتدريباً – مقابل قوات الجيش التقليدية، بحيث تبقى الأولى لحراسة القصر والسلطة، بينما يمكن استعمال قوات الجيش التقليدية كالجندرمة في الأقاليم، أو لمواجهة الاضطراب في بلدان أخرى. وهو ما تم مع الجيش البوركينابي أكثر من مرة في شكل بدا أقرب إلى دور المرتزقة، لذلك رأينا مشهداً له أهميته هنا في انسحاب الانقلابيين إلى ثكناتهم في «واجادوجو» لأن المشرف على المصالحة بين الحرس «الجمهوري» وبقية الجيش والحكومة هو الزعيم القبلى «للموسى» – موجو نابا. أما قائد الجيش الفعلى فظل يهدد فقط بزحف الجيش على العاصمة. حتى قام الحكم العائد بالانتفاضة الشعبية بحل الحرس «الجمهوري» خاصة مع الشعور بأن قيادته مازالت تفكر في السلطة، وتطلب السماح للعناصر الموالية لها بدخول الانتخابات بل وعدم محاكمتهم. في معركة انقلاب «بوركينا فاسو»، ولمدة أسبوع، استقرت معانٍ كثيرة على المستوى الأفريقي، فالدول الغربية وخاصة فرنسا تريد هذا البلد المغلق في قلب الصحراء بجيش قوى يُصنع على يدها ليقوم بدور المرتزقة في الصحراء الكبرى، بل وقام رئيسها «كومباوري» لفترة طويلة على تنظيم عمليات تهريب السلاح والمخدرات وتجارة البشر، وهو الذي كان شهيراً في فترة تهريب «الماس الدامي» من أنجولا والكونغو! وفي تقدير معظم رؤساء المنطقة أن جيش بوركينا فاسو، مثلما أخرج «كومباوري» فإنه أخرج من قبل «توماس سانكارا» نتيجة البنية العسكرية لأبناء بوركينا فاسو، أو لمبالغته هو نفسه في الاعتماد على العسكريين كثوار، ولذا نجد أن دولة كبرى أخرى، أو حتى إقليمية مثل نيجيريا والسنغال هما اللتان كانتا قريبتين من معالجة أزمة الانقلاب ليضمنا إدارة تبعاته، ورغم قوة شكيمة نيجيريا المدعومة حالياً من الأميركيين، فإن فرنسا لن تكون بعيدة عن إدارة هذا الموقع. وهناك عامل خاص بالشعب البوركينابي، الذي فاجأ العالم أكثر من مرة بفرض تغييرات جوهرية في حياته نتيجة صلابة الشباب واستجابة السياسيين، سواء عندما ثار على الفساد عام 1982، ثم دعم ثورية الزعيم العسكري سانكارا 83/1987، ليؤكد أن العسكريين يمكن أن يكونوا أداة تغيير وتقدم، وإن كان ذلك قد أضعف مقاومته لعنف العسكرية على يد كومباوري لعدة عقود، ورغم طول المدة بعد الحياة الثورية بحكم سنكارا، فقد انتفض بقوة واختار حكما مدنياً انتقالياً في أكتوبر 2014، ولم يقبل أن يسقطه العسكريون مهما بلغ نفوذهم هذه المرة. لذلك سارع حكام «دستوريون» مثل الرئيس السنغالي والنيجيري، يؤكدون أن قيمة الديمقراطية، تحتاج دائماً للسند الشعبي إذا تفهمها عسكري مثل الرئيس النيجيرى، أو مدني مثل السنغالي، وعلى رؤساء من مثل قادة رواندا وبوروندي والكونغو وبنين وزيمبابوي بأنماطهم المختلفة، أن يفهموا الرسالة الموجهة أساساً ضد الاستبداد، والفساد.