يبدو أن الخلافات بين الجمهوريين والديمقراطيين في الولايات المتحدة الأميركية، وداخل الحزب الجمهوري خصوصاً، قد بلغت حداً لا تصلح معه لإنهائها أية تسويات أو حلول أخرى سوى استقالة رئيس مجلس النواب ومغادرته المجلس نهائياً.. وهي الخطوة التي أقدم عليها جون بينر، الزعيم الجمهوري ورئيس الغرفة السفلى في الكونجرس الأميركي. فقد صرح بينر، الجمعة الماضي، بأنه سيغادر منصبه في نهاية شهر أكتوبر المقبل، وذلك لعدم تمكنه من توحيد الحزب الجمهوري الذي يعتبِر كثيرون داخله أن بينر غير مؤهل لمواجهة الديمقراطيين وتنقصه الصرامة اللازمة للتعاطي مع إدارة الرئيس أوباما. فما مدى صدقية هذه الاتهامات؟ وهل يؤيدها التاريخ السياسي لبينر وتاريخ علاقته بالحزب الجمهوري؟ يعد جون بينر أحد أبرز الساسة الأميركيين في الحزب الجمهوري، وهو يترأس مجلس النواب منذ مطلع عام 2011 حين حل محل الديمقراطية نانسي بيلوسي، وقد واجه في هذا المنصب العديد من الخلافات العويصة، والتي ساعد المجلسَ على تخطيها بفضل انتمائه لمدرسة السياسة الواقعية، لذلك قال عنه أوباما إنه شخص «يفهم بأن الحكم لا يعني الحصول على ما كل ما نريده مئة بالمئة، بل يحتم علينا العمل مع أشخاص نختلف معهم». ولد بينر عام 1949 في ريدينج بجنوب غرب ولاية أوهايو، لوالده ذي الأصول الألمانية هنري بينر ووالدته ماري آن ذات الأصول الأيرلندية، وكان الثاني بين اثني عشر شقيقاً، نشؤوا وترعرعوا جميعاً في عائلة كاثوليكية متواضعة الحال، مما اضطره للعمل في سن الثامنة داخل محل صغير تملكه العائلة. درس بينر في مدرسة «مولر» الثانوية في سينسيناتي، وكان المهاجم في فريقها لكرة القدم، وعندما تخرج فيها عام 1968، كانت الولايات المتحدة في ذروة تورطها في حرب فيتنام، فانضم للخدمة الوطنية في قوات البحرية الأميركية، لكن بعد شهرين من التدريب المكثف تم إعفاؤه من الذهاب للحرب بسبب متاعب كان يعاني منها في الظهر. وبعدئذ بدأ دراسته الجامعية وحصل على ليسانس في إدارة الأعمال من جامعة كزافييه في سينسيناتي عام 1977، ليصبح أول شخص في عائلته يلتحق بالكلية، لكنه اضطر خلال دراسته لمزاولة عدة أعمال لدفع تكاليف تعليمه. وبعد فترة وجيزة على تخرجه، تم قبوله موظفاً في شركة «نيسايت سيلز» لصناعة البلاستيك والتغليف والتعبئة، وتمت ترقيته فيها تدريجياً إلى أن أصبح رئيساً لها في نهاية المطاف، قبل أن يقدم استقالته منها عام 1990 عندما انتخب للكونغرس. وقد بدأت الحياة السياسية لبينر قبل ذلك بعدة سنوات، إذ انتخب في عام 1985 نائباً في برلمان ولاية أوهايو، ثم خاض الانتخابات الأولية داخل الحزب الجمهوري للمنافسة على أحد مقاعد الولاية في الكونجرس الفيدرالي ضد النائب البرلماني المنتهية ولايته، واستطاع الفوز عليه خلال الاقتراع التشريعي رقم 102، ثم أعيد انتخابه للمقعد ذاته (الدائرة الـ8 بمنطقة دايتون) وفي كل مرة منذ ذلك الوقت. واضطلع بينر بعدة مهام في مجلس النواب، ففي الفترة بين عامي 1995 و1999 ترأس مؤتمر الجمهوريين في مجلس النواب، وخلال الفترة من 2001 إلى 2006 ترأس لجنة التعليم في المجلس. وفي فبراير من ذلك العام حل محل توم ديلاي كزعيم للأغلبية الجمهورية في مجلس النواب. وقبل ذلك اشتهر بينر أيضاً لإسهامه في البرنامج الانتخابي الجمهوري لعام 1994، ولدوره في قانون الإصلاح الزراعي لعام 1996، وفي اعتماد قانون «عدم التخلي عن أي طفل»، وأيضاً لمحاولته الفاشلة في خلافة الناطق باسم مجلس النواب بيل باكسون عام 1998. وخلال تزعمه الأغلبية الجمهورية في مجلس النواب، حاول تنظيف صورة المجلس وصورة الجمهوريين الملطختين بالفضائح الجنسية وفضائح الفساد. وقد مثل بينر لبعض الوقت تحالف نفوذ المال والأعمال والمعتقدات الاجتماعية المحافظة، وكان محل تأييد من جانب يمين الحزب وأصولييه المسيحيين، مما سمح بإعادة انتخابه في نوفمبر 2006 ضد مورت ماير، أحد قدامى المحاربين في سلاح الجو الأميركي، وبإعادة انتخابه في عامي 2008 و2010 حيث أصبح رئيساً لمجلس النواب في 5 يناير 2011. لكن خرائط التحالفات تغيرت بعد ذلك، وبعد قرابة خمسة أعوام من المعارك الحزبية والتشريعية داخل المجلس، أعلن بيونر، الجمعة الفائت، استقالته من منصبه في الـ30 من الشهر القادم، على خلفية ضغوط من يمين الحزب الجمهوري الذي يعارض أوباما بشدة. وخلال هذه السنوات كان بينر يمشي على حد السكين أو في حقل ألغام خطير، محاولا التوفيق بين تقاليد عمل المجلس وميول القاعدة الشعبية للجناح المحافظ في الحزب الجمهوري. وقد واجه المجلس ضغوطاً مستمرة من هذا الجناح الذي يعتقد أن بينر مستعد لمساومة الرئيس أوباما، مشيرين إلى اعتماده في مرات عديدة على أصوات الديمقراطيين لتمرير تشريعات لا تحظى بإجماع الجمهوريين. وقد تصاعدت هذه الضغوط مؤخراً لدفع بينر نحو مواجهة أوباما فيما يخص موضوعي الإجهاض وخفض النفقات العامة، وربما تعطيل العمل الحكومي. ويتزعم الضغوط على بينر نواب «حفلة الشاي» الذين اعتاد ازدراءهم في مجالسه الخاصة، لكن دون أن يستطيع تجاوزهم، لذلك فقد أظهروا يوم الجمعة الماضي ترحيباً واضحاً باستقالته. لا خلاف على دور «حفلة الشاي»، وهم الجناح اليميني الأكثر تطرفاً داخل الحزب الجمهوري، في زيادة الاستقطاب السياسي الأميركي خلال السنوات الماضية الأخيرة، لكن من غير المرجح أن يتراجع هذا الاستقطاب عقب استقالة بينر، أو أن تحفظ هذه الاستقالة لمجلس النواب طابعه المؤسسي المنسجم، لاسيما أن من يتصدر المشهد لخلافة بينر هو النائب الجمهوري «كيفن مكارثي» المقرب من «حفلة الشاي» ذاتها وأحد من اتهموا بينر بمساومة أوباما! محمد ولد المنى