أتذكر أن أحد أساتذتي كلفني ذات مرة بإعداد دراسة حول أكثر وأقل دول الاتحاد السوفييتي السابق حظاً لجهة تطبيق الديمقراطية وبرامج الإصلاح السياسي، فتوصلت بعد بحث مضن إلى نتيجة مفادها أن أكثر تلك الدول نجاحاً هي جمهوريات البلطيق الثلاث (لاتفيا وليتوانيا واستونيا)، وأقلها هي جمهوريات آسيا الوسطى الإسلامية (أوزبكستان وطاجيكستان وكازاخستان وقيرغيزستان وتركمانستان، إضافة إلى أذربيجان)، أما الأسباب فتمثلت في وجود إرث ديمقراطي سابق لضمها إلى الاتحاد السوفييتي في حالة مجموعة الدول الأولى وانعدامه في حالة مجموعة الدول الثانية، واكتشفت على هامش البحث أن الأخيرة لا تعاني فقط من فشل تطبيقها للديمقراطية، وإنما تعاني أيضا من ظاهرتين خطيرتين هما الفساد، واحتكار الفرد للسلطة. وهما ظاهرتان عبدتا الطريق أمام بروز ظاهرة ثالثة هي لجوء الزعيم إلى توريث الحكم لأحد أفراد أسرته ولكأنما بلاده مملكة من الممالك الوراثية. والمعروف أن جمهوريات آسيا الوسطي وقعت، بعد انسلاخها عن الاتحاد السوفييتي في مطلع التسعينات، في أيدي زعماء أحزابها الشيوعية المحلية الذين نصبوا أنفسهم رؤساء للبلاد وراحوا يستخدمون ما راكموه من نفوذ في زرع أقاربهم في مفاصل السلطة كي يضمنوا الفوز في الانتخابات المتعاقبة ويتحكموا في ثروات الوطن. نجد تجليات ظاهرة الأسرة القوية الحاكمة والمتحكمة واضحة في أوزبكستان التي لم تعرف زعيما منذ استقلالها سوى الرئيس إسلام كريموف. كما نجدها واضحة في جارتها طاجيكستان التي يديرها الرئيس إمام علي رحمانوف منذ عام 1992 بقبضة حديدية على رأس نظام ديمقراطي الشكل فقط بدليل فوزه في عام 2013 بفترة رئاسية رابعة مدتها سبع سنوات في انتخابات لم تشهد منافسة حقيقية وخلت من الدعايات والخيارات الانتخابية، الأمر الذي أفضى إلى تصويت 84% من المقترعين لصالح رحمانوف بوصفه الخيار الوحيد. وإذا كانت قيرغيزستان تبدو مختلفة بعض الشيء لأن شعبها استطاع أن يطيح أولا بحكومة الرئيس عسكر آكاييف من خلال ثورة «السوسن» 2005 وأن يوصل زعيم المعارضة «كرمان بيك باكاييف» إلى السلطة، ثم نجح في عام 2010 في الإطاحة بالأخير بسبب استبداده وفشله في تلبية طموحات الجماهير الحقوقية والمعيشية، فإن نفوذ ابن الرئيس المخلوع «مكسيم باكاييف»، الذي عينه والده في عام 2009 رئيساً للجهاز المركزي للتنمية والاستثمار والاختراعات فسهل أمامه الطريق للوصول إلى الأموال العامة، لا يزال قوياً، وسط عجز الحكومة الجديدة عن استعادة الأموال العامة التي نهبها هو ووالده، خصوصاً أن تلك الأموال تم تهريبها إلى الخارج، ناهيك عن إقامة «مكسيم» في بريطانيا وتأثيره من هناك على الأوضاع في داخل بلده. ونأتي إلى أذربيجان التي تحقق فيها فعلا توريث السلطة من الرئيس السابق حيدر علييف الذي عمل مسؤولا عن المخابرات الروسية (كي جي بي) زمن الاتحاد السوفييتي قبل أنْ يستولي على السلطة في أذربيجان في عام 1993 إلى ابنه الرئيس الحالي إلهام علييف الذي تولى السلطة بمجرد وفاة والده في عام 2003 من خلال انتخابات، وكان قبل ذلك يتولى منصب نائب رئيس شركة سوكار النفطية الحكومية المسؤولة عن احتياطات أذربيجان من النفط والمقدرة بسبعة مليارات برميل. * باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين