تسبب مجموعة من العلماء الصينيين بداية العام الحالي في صدمة شديدة للمجتمعين العلمي والطبي، عندما أعلنوا عن نجاحهم في تعديل المادة الوراثية لجنين بشري، باستخدام تقنية حديثة ودقيقة جداً (Crispr). فرغم أن تقنيات الهندسة الوراثية، وتعديل التركيب الجيني، هي من الأساليب العلاجية الواعدة في المجال الطبي، والتي بدأت تظهر لها تطبيقات عملية في بعض الأمراض الوراثية، فإنها كانت دائماً مقصورة على الأشخاص– أطفال وبالغين- ولم تطبق على الأجنة في مراحل نموهم الأولى في الرحم. والفارق بين الحالتين أن في الأشخاص – الأطفال والبالغين- يظل التعديل الوراثي أو الجيني مقصوراً على الشخص نفسه، وإنما في حالة تعديل الخلايا التناسلية أو المادة الوراثية للأجنة في مراحلها الأولى (Germline)، فيمكن ساعتها أن ينتقل التعديل الوراثي إلى الذرية والأحفاد، وجميع الأجيال اللاحقة. وهو ما يمكن أن يكون ذا فائدة في حالة الأمراض الوراثية، إلا أنه يمكن أن يحمل في طياته عواقب وخيمة، إذا ما استخدم فقط لتحسين الصفات الوراثية، بعيداً عن الصحة والمرض. مثل هذا الاحتمال، يطلق عليه أحياناً مصطلح «الأطفال تحت الطلب» أو «أطفال الكتالوجات»، كما لو كان الأبوان يختاران طفلهما من كتالوج، حسب لون البشرة والشعر والعينين، وطول القامة وعرض الكتفين. وعلى رغم أن الجهات الصحية الرسمية في العديد من الدول، بدأت في فرض قوانين منظمة صارمة في هذا المجال، إلا أن الكثيرين أصبحوا يخشون من أن التقدم العلمي المتلاحق، وما سيترتب عليه من تبعات، سيتماثل في النهاية مع الأسطورة اليونانية المعروفة «البندورا بوكس» أو صندوق العجائب، الذي حمل في طياته فوائد جمة ومآسي عديدة، تحولت جميعها إلى واقع، عندما دفع الفضول بصاحبه للاطلاع على ما بداخله. وربما كانت القوانين البريطانية من أفضل النظم المتبعة حالياً لتنظيم هذا المجال، حيث تنص بشكل واضح على أنه من غير القانوني أو الشرعي تعديل المادة الوراثية في الأجنة، ثم زراعتها لاحقاً في رحم امرأة، من خلال الأسلوب المعروف بالإخصاب الخارجي. بمعنى، أنه إذا ما تم تعديل المادة الوراثية لجنين، بشكل يسمح بانتقال الصفات الوراثية إلى الأجيال القادمة، فلا يجوز أن تزرع هذه الأجنة في أرحام النساء، وإن كانت نفس هذه القوانين تسمح بتعديل المادة الوراثية للأجنة في مراحلها الأولى، لغرض الأبحاث والدراسات، على شرط أن تدمر لاحقاً، وألا يسمح لها بالاستمرار في الحياة، وحتى هذه الأبحاث يجب أن تحصل على تصريح وترخيص خاص أولاً، من الجهات الصحية المختصة، قبل البدء في الدراسة. ويعتبر طلب هذا التصريح أو الترخيص الخاص، الذي تقدمت به الأسبوع الماضي إحدى الجهات البحثية في العاصمــة البريطانية (The Francis CrickInstitute)، هو أول طلب في هذا المجال في بريطانيا، وسيخضع للفحص والتمحيص من قبل الجهة الصحية الرسمية المسؤولة عن تقنيات الإخصاب الحديثة وبحوث الأجنة، وهي العملية التي قد تستغرق أسابيع، وربما حتى بضعة شهور. وتسعى الجهة البحثية الطالبة لهذا التصريح، لإجراء تعديلات وراثية على بعض الأجنة في مراحلها الأولى، لفهم الأسباب الوراثية التي تتسبب في الإجهاض المتكرر في بعض النساء، على أن تدمر هذه الأجنة لاحقا، ودون أن تزرع في رحم أي امرأة. وبشكل مماثل في الولايات المتحدة، وإن كان بأسلوب مختلف عن الأسلوب البريطاني، وبعد تواتر التقارير عن النجاح الصيني في إحداث تعديلات وراثية أو جينية في أجنة بشرية، خرج الدكتور «فرانسيس كولينز» مدير المعاهد الوطنية للصحة، بتصريح واضح وموقف محدد، لم يعبر فيه عن موقفه فقط، وإنما أيضاً عن الموقف الرسمي الأميركي إجمالًا من قضية تعديل التركيبة الوراثية للأجنة، وهو الموقف الذي يمكن تلخيصه في أن الحكومة الأميركية، لن تدعم، أو تمول أبحاثا في هذا المجال. بناء على أن فكرة تغيير أو تعديل الخلايا التناسلية في الأجنة لأغراض طبية، قد تمت مناقشتها عبر عدة سنوات، ومن وجهات نظر مختلفة وجوانب متعددة، ويوجد اتفاق شبه عام على أنه خط أحمر لا يجب تجاوزه، فرغم أن التطورات التكنولوجية، قد منحتنا طريقة جديدة سهلة ولطيفة، لتغيير وتعديل المادة الوراثية، إلا أن الحجج القوية المعارضة للانخراط في مثل هذه العملية، لا تزال قائمة، وتشمل هذه الحجج عددا من المحاذير المتعلقة الخطيرة بالأمن والسلامة التي لا يمكن تقديرها بشكل كامل حالياً، بالإضافة إلى معضلات أخلاقية متعددة، يتوقع أن تنتج جميعها من تغيير المادة الوراثية للأجنة، بشكل سيؤثر على أفراد الأجيال القادمة، دون موافقتهم، أو رضاهم وقبولهم، ودون أن يكون هناك ضرورة طبية ملحة لذلك.