ما زالت التكهنات بشأن مستقبل أسعار النفط تُلقي بظلالها على الأوضاع الاقتصادية في العالم، مما يؤدي إلى تذبذب أسواق المال والعملات والسلع ويعكس الأهمية الكبيرة للنفط، باعتباره المصدر الأساسي للطاقة، والذي ما زال يتربع على عرشها رغم التطور السريع لمصادر الطاقة البديلة. الأهم من ذلك تلك التداعيات على اقتصادات البلدان المنتجة والمصدرة للنفط، والتي تزداد معاناتها مع استمرار تدهور الأسعار، علما بأن شدة التأثيرات السلبية تتفاوت بين دولة أخرى وفقاً لحجم اقتصاداتها أولاً وحسن إدارتها لاحتياطياتها النقدية التي تراكمت على مدى السنوات الماضية عندما وصلت أسعار النفط إلى مستويات قياسية قبل عام ونصف العام ثانياً. لذلك أضحى من المهم معرفة اتجاه الأسعار في الفترة المقبلة لتحدد على ضوئها السياسات المالية الواجب اتباعها لتفادي أكبر قدر ممكن من التأثيرات والتداعيات السلبية، إذ يمكن الاستنتاج بناء على معطيات عديدة أن اتجاه الأسعار سيستمر في الهبوط على المدى القصير، إلا أنها ستعاود الارتفاع على المديين المتوسط والطويل، مما يتطلب العمل على اتخاذ الإجراءات اللازمة للتأقلم مع تدني الأسعار بنسبة كبيرة. على المدى القصير، فإن الأزمات العالمية المتكررة، والتي ربما تتوج بأزمة حادة ستؤدي إلى الحد من ارتفاع الطلب على النفط يقابله زيادة في الإنتاج بعد رفع العقوبات عن إيران وارتفاع إنتاج كل من العراق وليبيا، إذ تشير البيانات المتوفرة إلى تباطؤ الاقتصاد الصيني ودخول الاقتصاد البرازيلي عملياً حالة الركود، وهي اقتصادات كبيرة ومؤثرة، كما أن هناك مؤشرات أخرى ترشح اقتصادات بعض البلدان، كالهند وكندا والعديد من الاقتصادات الأوروبية للتباطؤ أو الركود، مما قد يدفع أسعار النفط إلى مستويات متدنية جديدة تقل عن 40 دولارا للبرميل. أما على المستويين المتوسط والبعيد، فإن هناك مؤشرات عديدة مشجعة وتدفع بقوة نحو ارتفاع الأسعار بصورة تدريجية لتستعيد جزءاً كبيراً من عافيتها، أول هذه المؤشرات يكمن في إمكانية تراجع إنتاج النفط الصخري الأميركي، فكما ذكرنا في مقالات سابقة، فإن تدني الأسعار إلى ما دون 70 دولارا للبرميل سيقلل من جدوى استخراج النفط الصخري عالي التكلفة، ففي الوقت الحاضر تتقلص منصات الاستخراج في الولايات المتحدة ويغلق بعضها، كما يؤدي ذلك إلى إفلاس شركات النفط الصخري بسبب تراكم الديون عليها من جراء انخفاض الأسعار وتراجع عائداتها النفطية، حيث أعلنت إحدى شركات النفط الصخري إفلاسها بعد أن تراكمت ديونها لتصل إلى 4.2 مليار دولار، إذ لا يستبعد أن تعلن شركات أخرى إفلاسها في الفترة القادمة، في حين تم إلغاء أو تأجيل مشاريع نفط وغاز لشركات عالمية بقيمة 200 مليار دولار. مع تراجع الأسعار، فإنه بالإضافة إلى تراجع إنتاج النفط الصخري، فإن الإنتاج التقليدي في بعض البلدان سيتراجع أيضاً، حيث أعلن وزير الطاقة الروسي على سبيل المثال أن بلاده ستخفض إنتاجها إذا انخفضت الأسعار إلى ما دون 40 دولارا للبرميل، وهذا احتمال وارد إلى حد بعيد. هناك إمكانية أيضاً على المستوى المتوسط بأن يتجاوز الاقتصاد العالمي، وبالأخص الاقتصادات الكبيرة حالات التباطؤ والركود، والتي تأتي ضمن دورة اقتصادية متعارف عليها، مما سيؤدي إلى ارتفاع الطلب على النفط من جديد، وبالتالي ارتفاع الأسعار. وحتى ذلك الوقت، فإن على البلدان المنتجة والمصدرة للنفط التعايش مع الأوضاع المستجدة من خلال اتخاذ إجراءات مالية، ربما يكون بعضها مؤلماً، لكن لا بد منها لتجاوز الأزمة والحفاظ على استقرارها الاقتصادي والاجتماعي، حيث يتطلب الأمر وعياً نوعياً لاستيعاب هذه الإجراءات من قبل المجتمعات النفطية وعدم الاستماع إلى الإشاعات وحملات التحريض.