كان أول تعرّفي على الرجل من خلال كتابه عن الانتقال من العالم الثالث إلى الأول. وقد دلني أحد أصدقائي على الكتاب الذي اقتنتيه وقرأته بشغف، ولا يزال في مكتبتي ضمن ذخائر الفكر الإنساني، وقد استفدت خصوصاً من قوله إن الانتقال إلى العالم الأول يتم على ساقين من نشر التعليم ومحاربة الفساد. لذلك أعتقد أنه حتى يتم القضاء على الفساد في الدول العربية، عليها اتباع طريقة غسل السلّم من الأعلى إلى الأسفل وليس العكس. تذكرت حديث نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم: «إنما أهلك من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها». إنه باب هلاك الأمم. ولعل ذلك تقريباً ما أكده رئيس وزراء سنغافورة الراحل «لي كوان يو» تأكيداً عملياً، حين نهض ببلاده من المستنقعات إلى ذرى ناطحات السحاب. إنه ابن مهاجر صيني، ولد في سنغافورة حين كانت الجزيرة تحت الحكم البريطاني، ودرس في بريطانيا وشكل تصوره للعالم. أراد بناء دولة حديثة حيث تعيش مجموعة من الشعوب بسلام ورفاهية، في منطقة تعج بالجزر والمستنقعات. انتخب الرجل عام 1959 رئيساً للبلاد، وكانت الصراعات والمواجهات بين الصينيين والهنود والملاويين تتكرر باستمرار، لكنه أرسى تعايشاً مميزا بين المجموعات الثلاث. وفي عام 1965م قاد البلاد إلى الاستقلال، واليوم يحج السياسيون من كل فج عميق إلى هذا البلد ليتعلموا منه فن الإدارة والقيادة، في جو تتنوع فيه الإثنيات والأديان. كان الاهتمام الأول لحكومة «يو» هو القضايا الحياتية للناس: السكن، التعليم، الصحة، والإدارة الفعالة بعيداً عن روح البيروقراطية القاتلة. من الدرس الذي تقدمه تجربة سنغافورة ندرك أن وجود الأقليات لا يعني بالضرورة حدوث احتراب وصراع، كما في الشرق الأوسط المنكوب، حيث لا تحترم مجموعةٌ مجموعةً أخرى. ظهرت فعالية «لي كوان يو» الأولى في نقل الجزيرة من واقعها السابق، كمستنقع يعج بالبعوض الذي يمتص دماء البشر وينقل لهم الأمراض، إلى حديقة غناء وموانئ عملاقة ومركز مالي ولوجستي عالمي، خاصة في ممر مالقا العالمي حيث تمخر عبابه سفن كأنها الأعلام. استفاد الرجل من نظام العولمة لمصلحة بلاده، لكن السلام والرفاهية في بلد يعج بالأقليات له ثمنه، فالرجل جلس على كرسي الحكم لا يتزحزح عنه طيلة 31 عاماً، قبْل أن يوافيه الأجل عن عمر ناهز الـ91 عاماً، في ديكتاتورية غير معلنة، لكنه قاد البلد بفعالية، ولم يكن ثمة مكان للمعارضة، وكان يردد أن مزيداً من الديمقراطية مؤذي للبلد، ويجب أن تكون حرية التعبير محدودة، كما أن ما يكتبه الصحفيون وأصحاب الأقلام كان يخضع لمراقبة صارمة، وأي مخالفة بسيطة للقوانين تترتب عليها غرامات ثقيلة تكسر الظهر. وأخيراً غيّب الموت هذا الرجل الذي خدم بلده، وترك خلفه درساً كبيراً للبلدان التي تريد الانتقال إلى الحداثة والمعاصرة. لا غرابة إن أصبحت سنغافورة نموذجاً لتحديث بلد عاش التخلف ليقفز إلى حياة العالم الجديد.