حتى سقوط «رافعة الحرم» على زوار بيت الله تعالى بالمسجد الحرام، لم يسلم من «التفسير التآمري»، فطبقاً لأحد الخبراء العسكريين الاستراتيجيين العرب الذي صرّح في فيديو متداول عبر المواقع الاجتماعية، فإن الرافعة سقطت بفعل تجارب السلاح الأميركي الجديد (هارب) الذي ينتمي إلى أسلحة الجيل الخامس، ضمن برنامج بحثي (جيوفيزيائي) للطاقة الفعالة ذات التردد العالي، يتيح لأميركا القدرة على التحكم في الطقس في أي مكان في العالم، بعدة رسائل، منها: إثارة الرياح الهوجاء التي أسقطت الرافعة، أو تحريك الأمواج العاتية المدمرة (تسونامي) التي ضربت سواحل جنوب شرق آسيا، أو إنزال الأمطار بكثافة.. إلخ! لا عجب من شيوع وانتشار «النظرة التآمرية» التي تُفسر بها الأحداث المأساوية والأزمات في الساحة العربية، كما لا عجب من رسوخ «التفكير التآمري» وازدهار شجرته في الأرض العربية، إذ لا تزال طائفة من الرموز الفكرية العربية على قناعة بأن «هجمات سبتمبر على أميركا» مؤامرة أميركية وصهيونية، هدفها تحقيق مصالح سياسية واستراتيجية لأميركا. ورغم مرور السنوات وظهور الأدلة والاعترافات، لا يزال بعض التيارات القومية والإسلامية واليسارية على قناعة ببراءة بن لادن وصحبه من تلك الهجمات، ولازال أحد كبار الرموز الناصرية على اعتقاد بأن من ضرب أميركا هم «اليوغسلاف الصِرب» انتقاماً من أميركا لضربها بلادهم في حرب البوسنة والهرسك. ولازال أحد أشهر رموز «الإسلام السياسي» على «يقين» ببراءة بن لادن وصحبه، بحجة أنه بايع «الملا عمر» على السمع والطاعة وعدم الإساءة للآخرين، وأنه لا يملك القدرات الفنية والعسكرية لتنفيذ مثل هذه الهجمات الدقيقة، وأن هدف أميركا من هذه المؤامرة هو ضرب الإسلام والمسلمين تحت شعار «الحرب على الإرهاب». ولا عجب أن يتفق معه أحد أشهر الرموز اليسارية الذي كتب مقالاً عنوانه «16 سبباً للشك في نظرية الإرهاب»! كل هؤلاء أبناء ثقافة واحدة هي ثقافة كراهية الآخر الحضاري المتفوق، باعتباره عدواً متربصاً متآمراً وراء كل معاناتنا ومشاكلنا. هذه الثقافة السلبية تم ترسيخها في «بنية مجتمعاتنا» على امتداد عقود طويلة من قبل هذه التيارات الأيديولوجية الثلاثة، والتي رغم صراعاتها السياسية وتناقضاتها الأيديولوجية العنيفة، فإن الجامع المشترك بينها هو ترسيخها لثقافة «الكراهية» وثقافة «إلقاء اللوم على الآخر» وتحميله وزر تخلف أوضاعنا. وكان من نتائج هذا الشحن الأيديولوجي المكثف والمستمر ضد «الآخر الخارجي» «الآخر الداخلي» المختلف، ديناً أو مذهباً أو قومية، عبر منابر التعليم والتوجيه والتثقيف، أن تربت أجيال بعد أجيال على هواجس «التفكير التآمري» وأننا «أمة مستهدفة» من قبل أعداء دائمين، يتآمرون عليها باستمرار، بهدف التحكم في ثرواتها ومقدراتها ومنع نهوضها وتقدمها، ولهذا زرعوا إسرائيل في قلبها وشجعوا ثورات «الربيع العربي» لقلب الأنظمة القائمة، وهم اليوم وراء «داعش» والجماعات المسلحة التي تعيث فساداً في الأرض العربية. تربت أجيال عربية ونشأت على وهم كبير هو أن المستعمر رسم الحدود القِطرية لمنع وحدة العرب واستدامة فرقتهم، وهو «الوهم» نفسه الذي يروجه ويوظفه اليوم «داعش» لهدم الدول الوطنية وتأسيس «الخلافة»! ما كان «للتفكير التآمري» أن يترسخ ويتغلغل في هذه المجتمعات، لولا أن «شجرة التآمر» تجد في «البيئة العربية» الأرض الخصبة التي تزهر فيها وتمد جذورها البعيدة إلى عمق «التاريخ الإسلامي» الموصول بعصر «الفتنة الكبرى» التي حمّل مؤرخونا وزرها لليهودي «عبدالله بن سبأ»، امتداداً لمكايد «يهود المدينة» ضد الرسول صلى الله عليه وسلم والدولة الإسلامية الناشئة، مروراً بعصر «الحملات الصليبية» المسكونة بالأحقاد الدينية ضد العرب والمسلمين، وصولاً إلى العصر الاستعماري وسقوط الخلافة واغتصاب فلسطين وانتهاءً بالصراعات الدموية التالية. كل ذلك التاريخ الطويل من الأزمات والمعاناة، هيأ مجتمعاتنا وجعلها أكثر «قابلية» للفكر التآمري، مقارنة بمجتمعات أخرى، ومع ذلك على كتابنا ومثقفينا العمل على «تفكيك» هذا التفكير «غير العلمي»، المعوق للنهوض والبناء والتقدم. وفي هذا السياق يهمني التنويه بالجهد القيم للدكتور هاني نسيرة في دراسة بعنوان «قواعد التفكير التآمري في العالم العربي» وأراها من أفضل الدراسات التفكيكية لهذا الفكر.