عندما قررت روسيا إرسال تعزيزات عسكرية ضخمة ومستشارين ومدربين إلى منطقة الساحل السوري تحديداً، كان هذا مؤشراً إضافياً إلى أنها تتوقع تقسيماً فعلياً يستمر لفترة غير قصيرة في ظل جبهات متحركة نتيجة عدم توفر معطيات حل سياسي في الأمدين القصير والمتوسط. وإذا صح هذا التقدير، تصبح أولوية روسيا في المرحلة الراهنة هي السعي إلى تقاسم النفوذ مع إيران في المناطق التي يمكن أن يحتفظ بها نظام الأسد بمساعدتهما، عبر تعزيز حضورها في الشريط الساحلي، حيث ظل الوصول إلى «المياه الدافئة» هدفاً استراتيجياً روسياً مستمراً على مدى قرون. ويُعد الشريط الساحلي إحدى هذه المناطق التي أسماها بشار الأسد «سوريا المفيدة». وهي تمتد من دمشق إلى القلمون وحمص ودرعا وحماة، وصولا إلى اللاذقية وطرطوس. وقد أُعيد نشر القوات الموالية للأسد، سواء السورية أو الإيرانية والتابعة لطهران، على هذا الأساس منذ أواخر مايو الماضي على الأقل، عندما سيطر مقاتلون من بعض فصائل المعارضة على معظم محافظة إدلب شمال غرب البلاد. وربما يعود قرار التحصن فيما يُطلق عليه مناطق «سوريا المفيدة» لنظام الأسد وإيران وروسيا إلى قبل ذلك عندما فشل الهجوم الذي شنته قوات تابعة للنظام بهدف قطع خطوط إمداد كتائب المعارضة في حلب في فبراير الماضي. والحال أن قوات النظام والميليشيات التي تدعمه تحولت إلى وضع دفاعي بشكل كامل تقريباً منذ منتصف العام الجاري، باستثناء منطقة القلمون الجبلية على الحدود مع لبنان. ورغم أن مساحة المناطق التي أعلن الأسد في 27 يوليو الماضي سحب القوات إليها بسبب نقص الطاقة البشرية لا تزيد على 25% من سوريا، فهي تشمل الأجزاء التي يراها الأهم فى بلد يتمزق. غير أن ما يبدو اتجاهاً نحو تقسيم فعلي لن يخلق حدوداً جديدة في أي مدى منظور، بل خطوط تماس متحركة مع بقاء بضع مناطق لا يستطيع أي طرف السيطرة عليها، الأمر الذي يجعلها ساحات قتال مستمر. ويمكن مبدئياً تصور ثلاثة كيانات إلى جانب «إقليم النظام» الذي ستتقاسم إيران وسوريا السيطرة عليه. فهناك أولاً إقليم «داعش» في شرق سوريا وشمالها، وهو يتوسع حتى الآن رغم مرور أكثر من عام على إعلان واشنطن تحالفاً دولياً ضد «داعش». وهناك ثانياً «الإقليم الكردستاني» في المناطق الخاضعة لسيطرة «حزب الاتحاد الديمقراطي» الذي أعلن في فبراير 2014 إنشاء «الإدارة الذاتية في كردستان الغربية». وتمتد هذه المنطقة من المثلث الحدودي الذي تلتقي عنده أطراف سوريا وتركيا والعراق، وحتى أقصى الشمال أسفل سهل حران التركي. ورغم أن هذا «الإقليم» يضم مدناً مهمة مثل كوباني (عين العرب) وعفرين والجزيرة وغيرها، فهو يفتقر للتواصل الجغرافي، حيث تقطعه بلدات خاضعة لـ«داعش»، مثل اليعربية وإعزاز والشدادي. لذلك تحولت «الإدارة الذاتية» فعلياً إلى ثلاث إدارات. أما الكيان الثالث فمشكلته الأساسية هي أن مناطقه تخضع لسيطرة عدد كبير من الفصائل بعضها ديني متطرف، مثل جبهة «النصرة» و«أحرار الشام» و«جيش الإسلام» وغيرها، وبعضها الآخر مدني معتدل تمثله جهات عدة. ورغم أن هذه الفصائل تسيطر على مساحات أكبر مما يحتفظ به النظام، خاصة في المنطقة «الوسطى» والمناطق الجنوبية وبعض مناطق الشمال الغربي، وبينها محافظة كاملة تقريباً هي إدلب، فسيظل الوضع هناك سائلاً ومفتتاً لصعوبة الاتفاق بين هذه الفصائل على إقامة إدارة واحدة. وفي ظل هذا الوضع، تحركت روسيا لكي تضمن نصيباً لها في «سوريا المفيدة». تعلم موسكو أن المجتمع الدولي لن يقبل التقسيم الذي يزداد الاتجاه إليه الآن، لكنها تتعامل معه كأمر واقع سيستمر لفترة قد تطول. كما تدرك أن خطوط المواجهة الراهنة قد تكون هي الأساس الذي تقوم عليه أية مفاوضات عندما تتوافر المعطيات الضرورية للبحث عن حل سياسي. لكن ما يعني روسيا الآن هو ضمان حصتها في أية خريطة جديدة لسوريا، والمحافظة على وجودها في «المياه الدافئة»، عبر تدعيم حضورها في الشريط الساحلي الذي تتطلع للسيطرة عليه، خاصة اللاذقية وطرطوس، بينما تهيمن إيران وأتباعها على المناطق الداخلية التي لاتزال تابعة اسمياً لنظام الأسد.